العرب وصفقة التناوب لأجل الديمقراطية

TT

قليلون هم الذين تابعوا ما يجري هذه الأيام في المغرب، عنيت منتدى المصارحة والمصالحة الذي عهد إليه الملك محمد السادس بمراجعة الماضي السياسي للبلد وإصلاح الاختلالات والتجاوزات التي تعتبر الدولة مسؤولة عنها منذ استقلال البلاد عام 1956 .

وقد بدأت الخطوات الأولى لهذا المشروع في السنوات الأخيرة من عهد الملك الراحل الحسن الثاني في إطار تجربة التناوب التي نقلت المغرب إلى زمن سياسي جديد بعد عقود الصراع الملتهبة مع أطياف المعارضة (اليسارية على الأخص)، بيد أن النهج تدعم منذ استيلاء العاهل الشاب لمقاليد الحكم، وأفضى إلى مراجعة شاملة وصريحة بل وحادة أحيانا للتجربة السياسية المغربية المعاصرة برمتها.

والنموذج المغربي فريد لا ريب في العالم العربي، إلا أن الجزائر سلكت نهجا قريبا من هذا المسلك على طريقتها وإيقاعها الخاص، منذ وصول الرئيس بوتفليقة للسلطة، مكن من اجتثاث بقايا العنف الدموي الذي مزّق البلاد خلال عقد التسعينيات، كما سمح بالمصالحة مع أغلب أطياف الحقل السياسي وبإعادة الاعتبار للرئيسين الأسبقين أحمد بن بلة والشاذلي بن جديد.

لا شك أن ديناميكية الانفتاح طالت العديد من البلدان العربية الأخرى، لعل أبرزها ما تم في السودان من مصالحة بين الحكومة الشمالية وحركة غارناغ، إلا أن الحالة السودانية لها خصوصيتها التي تخرج عن نطاق الصراع السياسي الداخلي بالمعنى الضيق.

ومن الواضح أن مشهد الحوار والمصالحة بين الدولة والقوى السياسية في العالم العربي مرشح للتعمق والتصاعد، في سياق ديناميكية الإصلاح الراهنة التي تشكل مطلبا داخليا ودوليا.

وأمامنا بعض التجارب الناجحة للمصالحة في سياق التحول الديمقراطي في أوروبا وإفريقيا، تقتضي الاستكناه والاحتذاء. ففي بلدان أوروبا الجنوبية (إسبانيا والبرتغال واليونان) التي عرفت أعتى الديكتاتوريات العسكرية وتأخرت بقرنين عن اللحاق بالديمقراطيات الأوروبية الأخرى، حدث منعرج التناوب بهدوء ومن دون تصفيات دموية، فعقدت قوى التغيير والإصلاح صفقة مصالحة مع الأنظمة القائمة مكنت من التوصل لآليات التحول الناجع، على عكس تجربة دول أوروبا الشرقية (الشيوعية سابقا) التي شهدت منعرج التحول الثوري العنيف بعد نهاية الحرب الباردة فدفعت ثمنه غاليا، ولما تخرج بعد من تبعاته وآثاره السلبية.

لقد أفرزت تجربة التحول في دول أوروبا الشرقية نموذجا جديدا للحكم يجمع بين المركزية التسلطية لنظام لا يزال تتحكم فيه الأجهزة الأمنية (وإن تخلصت من عباءتها الشيوعية وتحالفت مع المافيات الجديدة التي استولت على اقتصاد الدولة المخصخص) ونمط من الممارسة الديمقراطية التعددية تكفل جانبا من الحريات السياسية والإعلامية وتنظم انتخابات دورية شبه نزيهة وشفافة.

أما التجربة الثانية الناجحة فهي تجربة جنوب إفريقيا التي عانت لعقود طويلة من نظام التمييز العنصري، قبل أن تنتقل في مطلع التسعينيات إلى الديمقراطية التعددية بتحقيق حكم الأغلبية وإلغاء قوانين التمييز والإقصاء العنصرية، في إطار صفقة مصالحة شاملة بين الأقلية البيضاء والأكثرية السوداء التي مثلها حزب المؤتمر الإفريقي وقائده الفذ نلسون مانديلا الذي أدار المفاوضات الانتقالية من سجنه الضيق. وقد أفضت منتديات الحقيقة والمصالحة في جنوب إفريقيا إلى استعراض وتقويم عهد التمييز الاستثنائي وما شهده من انتهاكات خطيرة لحقوق الإنسان وحرب إبادة عنصرية في بعض الأحيان، وتوصلت هذه المبادرة إلى تصفية تركة الماضي، ووضع قواعد رصينة لبناء ديمقراطي ناجع ومستقر.

وعلى الرغم أن تجربة جنوب إفريقيا خاصة وفريدة في المحيط الإفريقي الواسع، إلا أن العديد من البلدان الإفريقية (بما فيها الأقل نموا) عرفت مشهدا مماثلا في إطار ما يسمى في بداية التسعينات بالمؤتمرات الوطنية المستقلة. ويتعلق الأمر بتجمعات شعبية واسعة ضمت مختلف ألوان الحقل السياسي ومكونات المجتمع المدني، تعهدت بمراجعة وتقويم العهود الماضية ووضع دساتير وقوانين جديدة للنظام الديمقراطي التعددي مع الإشراف على الانتخابات لضمان نزاهتها وشفافيتها.

وقد عرفت دول عديدة هذه التجربة التي نجحت في بعضها وضمنت لها وضعا سياسيا مستقرا (كما هو شأن مالي) وفشلت في البعض الآخر (كما هو شأن الكونغو).

وبالرجوع إلى الحالة العربية، يمكن القول إن التجربة الديمقراطية المحتشمة والمحدودة ما زالت تصطدم بجدار التناوب الذي يعوقه، حسب رأينا، عاملان أساسيان هما من جهة تركة الأنظمة القائمة في مجال حقوق الإنسان، ووضع المؤسسة العسكرية التي تشكل العمود الفقري لنظام الحكم في أغلب البلدان العربية، في الوقت الذي يميل أداء بعض المعارضات إلى خط الانقلابية الراديكالية إن لم تلجأ إلى العنف والإرهاب، كما هو حال بعض المجموعات الأصولية المتطرفة.

ولذا فإن نجاح ديناميكية الإصلاح الحالي، يقتضي توفر شرطين أساسيين لا بد من مراعاتهما في الحوار المنشود بين أنظمة الحكم ومعارضاتها :

أول الشرطين هو مراجعة وتقويم تجربة الماضي بما فيها من انتهاكات وتجاوزات خطيرة بروح المصارحة والمصالحة التي تكشف عن كامل الحقيقة وتعوض الأضرار الحاصلة، لكن بعيدا عن منطق الثـأر وتصفية الحساب الذي يُبقي الأوضاع في دائرة الاحتقان والتأزم، التي لا مآل لها إلا الفتنة الأهلية. إنه الدرس الذي وعته دول أوروبا الجنوبية كما وعته جنوب إفريقيا، وأخذ به حاليا العرش والقوى السياسية في المغرب.

أما الشرط الثاني فهو إدماج المؤسسة العسكرية في أي مسار ديمقراطي انتقالي، باعتبارها الرقم الصعب في المعادلة السياسية، وإحدى التشكيلات المؤسسية القليلة الفاعلة، فضلا عن كونها حققت مكاسب وامتيازات جعلتها في قلب مختلف الرهانات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، ومن ثم صعوبة وخطر إقصائها في عملية التحول الديمقراطي.

لقد كشفت التجربة السودانية في عهد حكومة صادق المهدي الأخيرة هذه الحقيقة، كما بينتها التجربة الجزائرية بعد انتخابات 1991، وهما تجربتان واعدتان قوضهما وهم تحييد الجيش والاستغناء عنه. ولعل النموذج التركي ـ على علاته وثغراته ـ يشكل درسا جديرا بالتأمل، حيث يتمتع الجيش بدور سياسي دستوري ومؤسسي في ظل تجربة ديمقراطية لم تفتأ تتعزز بالتدرج. وقد أخذت باكستان في عهد رئيس الحكومة الحالي برويز مشرف بالنموذج ذاته، فأعطت لمجلس الأمن القومي المكون من قيادات الجيش دورا سياسيا محوريا.

وإذا كان الجيش قد قاد في الخمسينات والستينات الثورات القومية في المشرق العربي، فلا بد من تهيئته لتأدية دور تاريخي آخر في قيادة وتسهيل عملية الانتقال الديمقراطي السلمي في البلاد العربية. فلعل المؤسسة العسكرية العربية تنتج ديغول عربيا، أو فرانكو على الأقل.