صدّق أو لا تصدّق.. قمة عربية تطيح حكومة!

TT

أقبلت الأردن قبل أيام على تعيين حكومة جديدة. اجراء طبيعي، لو تم في ظروف مختلفة لتلك التي استعجلت العاهل الأردني الملك عبد الله الثاني لتصحيح أخطاء من نابوا عنه في قمّة الجزائر. اذ عاد الملك للتأكيد على ما لا يترك مجالا للالتباس، اسرائيليا ودوليا، أن مبادرة السلام العربية الوحيدة المطروحة على الطاولة (مبادرة الأمير عبد الله ولي العهد السعودي) هي تلك المقرّرة، جماعيا، في بيروت عام 2002 .

واعترف انني لا أفرح لمغادرة هذا الوزير أو هذه الحكومة بقدر ما أفرح أن شيئا، رغم كل شيء، بدأ يتحرك في عالمنا العربي، اذ أصبحت، القمم العربية قادرة على اطاحة الحكومات. سُقوط حكومة الفايز يُؤرخ، ربّما، للمرة الأولى أنّه حتى وان اخترقنا ماغما الأرض في الخضوع لتحقيق رغبات غيرنا تبقى هناك خٌُطوط حمراء لا يمكن لأحد أن يتجرأ على تجاوزها.

لذا، في رأيي مهم أن نعود الى خلفية ما حدث ومحاولة قراءة العنف اللغوي الممارس من قبل الملقي وزير الخارجية الأردني (عندها)، ضد زملائه في القمّة وعلى رأسهم عبد القادر حجار ممثل الجزائر لدى الجامعة العربية في القاهرة، لمّا وصفه «بالأمّي». ومتى قال هذا؟ لما صمد الرجل برفقة عمرو موسى الأمين العام للجامعة وعدد من الوزراء في رفض، حتى لا أقول، تجاهل طرح المبادرة الأردنية للتطبيع أو السلام مع تل أبيب على جدول أعمال القمة. علما أن المبادرة الأردنية ظهرت إلى الوجود أياما قليلة قبل الحدث وتسببت، لثقل «رُوح التسليم فيها» في انزعاج الدولة المضيفة، التي رفضت أن تكون أرضا لها.

أما هاني الملقي، رغم مغادرته الوزارة، فلا هو ولا المعنيون في الجامعة العربية كشفوا لنا، حتى اليوم، عن مضمون تلك الوثيقة التي اكتفى الملقي وسلطات بلاده باعتبارها «مجرد شرح لتلك المبادرة المطروحة من قبل السعودية في قمّة بيروت». لكن وزير الخارجية المصري لم يشاطرهما الرأي، إذ انضم إلى صف المتحفظين واصفا اياها بأنها «مبادرة طويلة ومستفيضة، مما يجعل من الصعب فهمها وإدراك جوهرها». لما يا ترى كل هذا الغموض ولم تنشر المبادرة لنحكم عليها؟

إن كان المشروع الأردني للسلام مجرد شرح، كما زعم الملقي، أتساءل ما حاجة وزارته عندها لطرح ما يشرح مبادرة بيروت التي تعدّ بالتاريخية لجرأة وضوحها في الاعتراف بإسرائيل علنا، لأول مرة، من قبل كافة الدول العربية (من المشرق إلى المغرب) وقبولها الكيان العبري، كدولة شرق أوسطية يجوز، علنا، التعامل معها. لكن، مشروع السلام العربي المقترح اشترط على تل أبيب التوقف عن توسيع المستوطنات في الضفة الغربية وضرورة «تنازلها» عن الأراضي المحتلة في يونيو (حزيران)عام 1967 وقبولها حلا عادلا للاجئين الفلسطينيين وفق القرار 194، الى جانب ضمانها قيام دولة فلسطينية تتعايش جنبا إلى جنب مع دولتها. أهذا كثير على أرض ضاعت من أصحابها بين وعد بلفور عام 1917 وتأسيس إمارة شرق الأردن عام1921؟ وأهذا كثير، أيضا، لما نعود بالذاكرة اليتيمة للتاريخ العربي إلى عبد القادر الحسيني (رحمه الله) (المجاهد الفلسطيني) عام 1948، الذي رفضت الجامعة العربية مدّه بالسلاح لتحرير القسطل (احدى المدن المطًلة على القدس الشريف) فدوت صيحته عبر التاريخ والأجيال المتلاحقة: «ليسجل التاريخ أنّكم (يا عرب) أضعتم فلسطين»؟

لذا، حتى تبقى المبادرة الأردنية عبرة ولا تدخل طيّ النسيان، مهما حصل من تصحيح من قبل الملك عبد الله الثاني، أستمر في التساؤل أنه لولا الأميّة أو حتى نعي العقل العربي، كيف يُمكن، اذن، أن نصل الى اقتراح تقديم مزيد من التنازلات؟ ولو لم نكن أميّين، كلّنا، سيّدى الملقي، كيف بالامكان أن يمضى أكثر من نصف قرن على ضياع فلسطين وإسرائيل لم تقدم أية «تنازلات» تذكر لحفظ إراقة دماء شعبها، حتى يقلق فطاحلة السياسة العرب على تجارتهم وبطونهم ويركضون للتطبيع مع حكومة مجرم حرب (آرييل شارون)؟

لذا أكررها، نعم كلنا أمّيون، كون الأمية مفردة لم تعد تعني في حالة شعوبنا الجهل بالكتابة والقراءة والكمبيوتر فقط، بل إنّها أمّية واللاوعي بالتاريخ عندما نستمر في امتصاص وتكرار تداول القصص الكاذبة عن ماض لزعامات تواطأت منذ «الثورة العربية الكبرى» عام 1916 في وأد آمال وطموحات هذه الأمة في مهدها. ولولا هذه الأمّية، لما عدّدنا النكبات من نكبة 1948 إلى نكبات 1956 و1967 وحتى 1973 و1990 و1991 و2003 (..). ولما استطاعت حفنة من اليهود عام 1948 من غرس دولة لم يتوقف تماديها، ولما دُمرت دولة عربية كبرى كالعراق.

مع كل هذا، هناك من أراد أن تكون «قمة عام 2005»، ونحن ما زلنا فيها، مناسبة لحلول التسليم الكامل والشامل لخمسين عاما المقبلة مستعجلين في الحصول على ماذا؟ لست أدري.

في ذات السياق، أتذكر ما نقل محمود قطاط (كاتب تونسي) في أحد مراجعه عن مصري سئل: «ألا تعرف ما المقصود بالعربي؟ فقال: بلى، العرب يعرفون. يعرفون بأن مُجتمعهم هو اللُّغة..، لُغة المُهانين».

لقد اختلطت الأميّة بالصمت المُجرم (لمن عرف وصمت) لما تتحوّل النكبة أو الحدث إلى مجرد طرق على الطبول وتسليط الأضواء على الهوامش، في حين أن لبّها أو جوهرها يبقى صعب المنال، اذ تخلد الحقيقة لنوم عميق في توابيت الذاكرة العربية، حتى لا تحرج التوازنات القديمة. وهذا ما يحدث الآن, للملقي ومشروعه للسلام!! والمعوّل عليه اليوم، للمساهمة في اختراق هذا الجدار هو الإعلام «الحديث» بفضائياته، ولو أنّ المتوفر منه ما يزال، حتى الساعة، مُحتشما وسطحيا لا يرتقى الى المُستويات المرجوة من العمل الإعلامي الحر، الذي هو الوحيد القادر على دّق جرس عهد جديد يضع النقاط على الحروف بموضوعية ومسؤولية ويجبر كل منا، مستقبلا، على تمييز: الأمّي من المتعلم والخائن من الشجاع والصديق من العدو. أي أن يساهم، هذا الاعلام، في تعريف الناس بتاريخهم الجاري والمُغيّب، كما هو من دون نفاق ومُزايدة، لعلّ وعسى، سيكون في ذلك شفاء للجروح ومقبرة للنكبات. لكن، هل من مستجيب؟