«فيصل» في لندن لقد أغلق

TT

غادرت لندن وبقيت أشتاق الى «طقوسي» فيها: بهجة المرور على «هارودس». وبهجة العبور اليومي في فناءات «الهايد بارك». وبهجة المتعة امام رفوف مكتبة «ووترستون». ومتعة التسوق الرمزي من واجهات «جيرمن ستريت».

واذا حل صباح السبت فمتعة الذهاب الى «فيصل».

حتى موعد زيارتي الى لندن، كنت أعده بحيث يكون لي جلسة في «فيصل». ومع ان المواضيع أصبحت متكررة والشجن العربي أصبح رتيبا، فقد بقيت رؤية الأصدقاء. ومن الأصدقاء الذين لا تضمهم الجلسة السفير جهاد مرتضى، الذي لا يحب ان يحرج بحضوره أحدا أو ان يؤدي حضوره الى ضبط ايقاعات النقاش. وعندما وصلت الى لندن هذه المرة كان اليوم جمعة. واتصلت به اسأل ان كان الاثنين مناسبا لفنجان قهوة في مكتبه. وقال، هل يعقل الانتظار الى الاثنين؟ غدا السبت على فطور لا يقاوم: لبنة بالزيت وفطائر بالصعتر.

قلت، لكن السبت موعد «فيصل»، ولقاء الشباب. وقال «لا أدري تماما. لكنني اعتقد ان جلسات «فيصل» لم تعد قائمة». واتصلت بالزميل العزيز سليم نصار، مندوب الصحافة العربية الدائم في لندن، وسألته ان كان «فيصل» حقا قد اغلق، فقال بكل اسى ان فيصل قد اغلق حقا.

بدأ «فيصل» كما قلت، بمجموعة من الأصدقاء والرفاق الذين يعرفون بعضهم البعض والذين تجمع بينهم قواسم مشتركة كثيرة او قليلة. لكن شيئا فشيئا بدأ يقتحمه آخرون. وصار من الصعب ضبط «العضوية». أو ضبط إيقاع الجلسات. ولم يعد ذلك التسامح الفكري سائدا. فصارت بعض الاصوات تعلو في غضب. ولم تعد كل المواقف مقبولة بل صار الموقف تهمة لا حرية. وشعر الاعضاء ان آراءهم وأقوالهم تنقل الى بعض المخابرات العربية. لكن من هي تلك المخابرات التي يهمها ما يقوله رجل هادئ في لندن عن حكومة، أو فساد، أو روضة سياسية؟ يبدو ان كل المخابرات العربية يهمها ذلك. فليس لديها ما هو أهم. وليس لدى مخبريها ما هو أنفع وأجدى. وقد تنقل «فيصل» في كل فنادق لندن دون ان يشعر لحظة واحدة بأي ثقل أو أي خوف. فهو لا يقلب الحكومات ولا يحرض الثوار، بل يعرض كل اسبوع، ببساطة، آخر اخبار الوطن العربي. لكن عندما انتقل وباء الوطن العربي الى شرفات «الهايد بارك»، شعر أهله انه لا بد من اغلاقه.

لقد فقدت جزءا جميلا من طقوسيات لندن. ولم يعد مهما، للاسف، ان يقع صباح السبت في أيام الزيارة. والباقي ليس فيه مخبرون، على الأقل بقدر ما اعرف.

الباقي غداء في «كافيه هارودس» مع الصحف، وحتى مع معجن «السكونز» الحلو، برغم أوامر الطب، والزيارات اليومية الى رفوف «ووتر ستونز»، وقسم السير والسير الذاتية. وتفقد ازهار «الدافودل» الصفراء التي تركتها هنا من العام الماضي، موزعة، مصفوفة، ومعتنى بها كأنما صرح البريطاني الحقيقي هو حديقته لا قصره. ولا يزال هنا أيضا العجوز الذي يطعم الحبوب للحمام. والمرأة التي تمد الخبز الى القنافذ. والأولاد الذين يرمون الفتات الى البط في البحيرة. أما المخبرون، فمساكين المخبرون. لم يعد لديهم ما يبخونه صباح السبت.