الحب الكبير

TT

ثقافتنا الشعبية تسلم بأن الأولاد والبنات يكبرون، وحين يكبر ابنك أو ابنتك لا بد ان تؤاخيه. الاخاء يحمل معاني كثيرة أهمها رفع الوصاية واحترام رغبات الآخر وقراراته، خاصة ما يتعلق منها بحياته ومستقبله. من حق الأخ عليك ان تحب له ما تحب لنفسك. ومن حقك عليه ان يشعرك بالود والاحترام للاخاء الذي توليه اياه.

والحقيقة هي انه في حياتنا ليست هناك لحظة محددة او يوم ما تشرق شمسه فتقول لنفسك اليوم سوف يصبح ولدي اخا لي. المسألة تدريجية وتشكلها مواقف كثيرة وانفعالات كثيرة واستنباطات لمعان مكتسبة من التجارب. ولكنك قبل ان تبلغ نقطة الوصول يقف بك قطار العمر عند محطات كثيرة معظمها لا يعجبك لأنها ترسم خريطة لصراع القوى النفسية والاجتماعية بينك وبين فلذات الاكباد. ولعل اطرف ما في هذه الرحلة ان كلا الطرفين المتصارعين يظن انه مظلوم. فالأولاد والبنات يشكون من ديكتاتورية الاباء فيما يتعلق بتقييد الحريات وفرض الارادات وندرة المسموح وكثرة الممنوع. ومن ثم يرسم وجدان الولد صورة للوالد أو الوالدة لا تختلف ملامحها كثيرا عن ملامح «شمهورش» الجبار الذي تهتز لغضبته أركان البيت، فعال لما يريد، بيده مفاتيح العدل ولكنه لا يستعملها إلا قليلا، يهابه الولد كثيرا ويحبه كثيرا ويتمنى ان يكون مثله ولكن هذا الحب يتوارى خلف المد الغريزي لحب يبدو أهم واكبر، وهو حب الحياة وفرص التجربة التي تحتل مساحات كبيرة من العقل والقلب في مراحل النضوج.

تلك هي مظالم الأولاد والبنات كما نسمع ونقرأ ونشاهد. الابن والبنت يتصور انه يتأثر ولكنه لا يؤثر. ولكن الحقيقة العلمية تؤكد غير ذلك. فالوالد يتأثر بالقدر نفسه.

من المتعارف عليه ان الأبناء يفسرون انغماس الأب أو الأم أو كليهما في العمل أو في أمور أخرى بأنه دليل على عدم الحب وعدم الاهتمام بأولادهم. ويعلقون كل فشل اسري على انشغال الوالدين بالعمل. ولكن آخر الأبحاث تؤكد ان وراء كل أب مشغول بالعمل أكثر من انشغاله بالتواصل مع أبنائه علاقة توترية مع أحد الأولاد. المعنى باختصار هو ان الاقبال على العمل هو نوع من التعويض عن الحرمان العاطفي الذي يعتري الوالد حين يشعر ان أبناءه المراهقين يكنون له العداء المستتر.

هذه الدراما الانسانية جاءت نتيجة لأبحاث نفسية أجريت على مدى عامين في الولايات المتحدة، واشتركت فيها أكثر من 200 أسرة، ثم نشرت نتائجها في مجلة متخصصة في دراسات علم النفس. وتبين ان العلاقة مع ولد من الجنس الآخر هي الأكثر تأثيرا في الوالدين. فالأب يتأثر سلبا إذا فشلت علاقته مع ابنته المراهقة والأم تتأثر سلبا لفشل علاقتها مع الابن المراهق. وبدون ان يشعر الوالد وبدون ان يتخذ قرارا بالتباعد ينغمس تدريجيا في مزيد من العمل، فتتقلص المساحات الزمنية التي يقضيها مع أسرته وبالتالي تتقلص فرص تعرضه للاحساس بالفشل.

المهم هو ان الصراع مرحلي يفضي الى علاقات أكثر توازنا، خاصة إذا امتلك احد الطرفين أو كليهما أدوات نفسية تمكنه من الكشف عن مشاعره الحقيقية.