انتظروا.. فالآسيويون مقبلون!

TT

يختلف الباحثون حول أثر المعاملات الاقتصادية والتبادلية بين الدول على سلوكها الخارجي، فبينما يميل البعض إلى الأخذ بنظرية اعتماد العلاقات الدولية على مدى تكافؤ المنافع المترتبة عليها، لا يرى البعض الآخر حتمية العلاقة بين الاعتماد الاقتصادي والسياسة الخارجية، فبالرغم من حجم تجارة الصين واليابان البينية التي تزيد حالياً على 200 بليون دولار سنوياً، وتقدم الصين في العام الماضي على الولايات المتحدة لتصبح شريك اليابان التجاري الأبرز، غير استثمار الشركات اليابانية لمبالغها الضخمة في الصين، وتوظيفها لمليون صيني على الأقل، نقول بالرغم من هذه التكاملية الاقتصادية المثبتة بالأرقام، إلاّ أن تصاعد شعور الفتور التاريخي بين البلدين، قد كان أقوى من تبني سياسة الحياد فيما بينهما، وهو ما تأجّجت شعلته منذ تولي رئيس الوزراء الياباني جونيتشيرو كويزومي للسلطة في عام 2001 وزياراته السنوية المتكررة لمزار ياسوكوني في طوكيو، الذي يضم إلى جانب ضحايا الحرب العالمية الثانية من اليابانيين، رفات مجرمي هذه الحرب.

إنه التاريخ الذي حاولت اليابان بإصدارها أخيرا كتبا مدرسية منقحة لطلابها أن تخفف منه، أو كما يدّعي الصينيون أن «تغسل أيديها» من سجلها الأسود، الذي اقترفته خلال احتلالها الصين في الفترة من عام 1931 إلى 1945، في الوقت الذي تصر فيه اليابان على أن تقديمها للصين مبلغ 34 بليون دولار في شكل مساعدات تنموية، والتي نادراً ما يأتي على ذكرها الإعلام الصيني، هو نوع من الاعتذار عن الفظائع التي ارتكبت خلال تلك الحرب.

على أية حال، احتجاجات آلاف الصينيين التي بدا أنها تحظى ببعض الدعم الرسمي، ما هي إلاّ حلقة ضمن معركة قاسية بين الصين واليابان للهيمنة على مستقبل آسيا الاقتصادي والدبلوماسي والعسكري. فالجاران، وهما ثاني وثالث أكبر المستهلكين للنفط العالمي، يعيشان مرحلة تنافس حاد بشأن التنقيب عن موارد للطاقة جديدة، كان من شأنها توغل غواصة صينية في المياه الإقليمية اليابانية في نوفمبر الماضي، على مقربة من حقول الغاز الطبيعي التي يتسابق الطرفان على استغلالها، والذي أسفر عن إعلان اليابان لحالة التعبئة العامة بين قواتها البحرية في تجاوز واضح لوضع دستورها السلمي بعد الحرب العالمية الثانية. وعلى ما يبدو أن حماس الدولتين في إعاقة الطموحات الاستراتيجية لكل منهما لن ينتهي بوقوف الصين في وجه محاولات اليابان للانضمام إلى عضوية مجلس الأمن الدائمة، ولا بسعي اليابان الدؤوب إلى تأخير التحاق الصين بعضوية بنك «إنتر أميريكان ديفلوبمنت»، أو التهديد بأعمال الحفر بحثاً عن النفط والغاز في بحر الشمال الصيني. هنا نقول: من المستفيد الأكبر من هذا التأزّم! إنها الهند التي لا تمانع من اشتراكها مع اليابان في أعمال تطوير موارد للغاز الطبيعي، ومن ثم تصديره إلى اليابان، ومن تكثيف جهودها في نفس الوقت مع الصين لتأسيس جبهة استراتيجية آسيوية أمام الولايات المتحدة من ناحية، والاتحاد الأوروبي من ناحية أخرى، منهية بذلك خمسة عقود من الصراع المتبادل بينها وبين الصين، فالقرن الواحد والعشرون الذي سيصبح «قرناً آسيوياً» حسب تصريح رئيس الوزراء الصيني، يستحق هذا الاتفاق التصالحي، فماذا عن دور الولايات المتحدة في ظل ما يجري على الساحة الآسيوية، وهي التي تفتقر إلى الخبرة الواسعة في شؤونها!

الولايات المتحدة ليس لديها شعور بالقلق إزاء التقارب بين نيودلهي وبكين (مع أن مجموع شعبهما يمثل أكبر تجمع بشري في العالم ويبلغ 37% من عدد سكان الكرة الأرضية)، فهو «ليست حلفا عسكريا، وليس موجها ضد هذه المنطقة أو تلك»، كما جاء في بيان لوزارة الخارجية الهندية في محاولة لتحاشي المخاوف والشكوك إزاء تكوين محور آسيوي يعارض المصالح الأميركية في المنطقة. بل وكأن الولايات المتحدة قد اقتنعت بأن تدني إحكام سيطرتها على الاقتصاد العالمي، هو ثمن انشغالها بسياستها التوسعية العسكرية، وبدلاً من التخطيط لسياسات اقتصادية تستطيع من خلالها استيعاب المشاكل التي تسببت بها قرارات حربها المُكلفة، تجدها لا تملك أمام النجاح الصيني الاقتصادي سوى ضغطها على الصين لتعويم عملتها مقابل الدولار، مع أن انتقال مركز الثقل الصناعي الصيني لن يتأثر بهذا التعويم، وستبقى الصين القاعدة الأرخص تصنيعاً وتصديراًَ.

والخلاصة أن إعادة توازن القوى في آسيا بصعود النفوذ الصيني وخاصة مع التحديث السريع لقوات بكين المسلحة، وامتلاكها للقوة النووية، ثم إلحاحها المتناقض على كوريا الشمالية للتخلي عن سلاحها النووي وتهديداته، فضلاً عن اتحاد شراكتها مع الهند، أي مع الدولة الأسرع نمواً في العام بحلول عام 2020 في دراسة أعدها مجلس الاستخبارات الوطني الأميركي في ديسمبر الماضي، زد عليه، تطلعات اليابان الطموحة في توسيع لعبها السياسي العالمي كما الاقتصادي، بدليل قوات حفظ السلام اليابانية في العراق، واستعدادها للدفاع عن تايوان إذا هوجمت من قبل الصين. جميعها مؤشرات تخرج بنتيجة لا تبتعد كثيراً عن التطلع إلى الاستغناء المستقبلي عن النفوذ الأميركي في آسيا، وفتح المجال الإقليمي لغيره، خاصة وأن عامل التقارب الجغرافي ـ السياسي بين دول آسيا الكبرى سيساهم «عند الضرورة» في القفز فوق القوميات المتصادمة، وتأجيل الخلافات العالقة، من أجل تكاتف شرقي لمواجهة أطماع الغرب، وهو الحلف الاستراتيجي الآسيوي الذي لن يفوت روسيا الانضمام إليه متى تشكّل.

إنما علمنا بوجود القواعد الأميركية على أرض اليابان، غير الاتفاقيات الدولية المبرمة بين البلدين يجعلنا نتساءل عن تحديد موقف اليابان من تغيير مراكز القوى الآسيوي المقبل؟