الانتخابات في السعودية بين الصقور والحمائم!

TT

وهكذا وضعت حرب الانتخابات البلدية في السعودية أوزارها، وطوى المرشحون مع خيام حملاتهم تجربة مثيرة وثرية، مهما قلل البعض من حجمها وتأثيرها.

حملات انتخابات المجلس البلدي مثلها مثل أي حملات انتخابية في الدنيا، هي خليط من الخير والشر، الحسنات والسيئات، الأعمال الصالحة والباطلة، المروءات وقلتها، الوعود الإيمانية والأماني الشيطانية، تماما مثل تنوع المتقدمين للترشيح، ففيهم الصالح والطالح.. الطامح والطامع.. المخلص النزيه والانتهازي الرخيص.. الذي هاجر إلى المجلس البلدي لدنيا يصيبها أو (شهرة) ينكحها.. والذي هاجر للمجلس البلدي لمصالح عامة يحققها أو حاجات للناس يقضيها.. نظرة فاحصة في صور المرشحين الدعائية تجعلك قبل أن تقرأ برنامجهم الانتخابي تقرأ في قسمات وجوههم تعبيرات الثعلب المكار أو ملامح الحمل الوديع.

من هؤلاء المرشحين (عفاريت) أذكياء عرفوا من أين تؤكل كتف الانتخابات، فخططوا ونسقوا وتعاونوا، فكانوا صقورا نشطة تغدو إلى ساحات المعركة الانتخابية خماصا وتعود منها بطانا، بل متخمة بأصوات الناخبين، خططوا (صح) ونازلوا المنافسين صح، فحصلوا على نتائج صح.

الانتخابات إحدى بنيات السياسة، والسياسة لا مجال فيها للمثل والمثاليات الكاملة، كما أن الانتخابات لعبة لا تستقيم في الغالب إلا باستخدام الذكاء وجودة التخطيط، وهي أيضا طبخة لا تنضج إلا بشيء من بهورات (الخبث والدهاء)، والمرشحون في التعامل مع (الخبث الانتخابي) ما بين مقل ومستكثر، ومن ابتغى السلامة الكاملة المتخمة بالمثل فليس مكانه الانتخابات ومكرها ودهائها وألاعيبها.

ومن المرشحين أنقياء أكفياء أسوياء تاهوا بين آكلي أكتاف الانتخابات وهواميرها، يعولون على ناخبين اجتالتهم (عفاريت) الانتخابات ولاعبوها المحترفون، ومع ذلك اجتهدوا وأجهدوا، وصبروا وصابرو، وتعبوا وأتعبوا، وفي النهاية خسروا أصواتا، ولكنهم كسبوا خبرات ومهارات، واتصالات وتواصلات، ومعارف وتقنيات، وآلات وآليات ولسان حالهم يقول إنهم خسروا معركة انتخابية، ولكنهم لم يخسروا حربها، وبعضهم لم يعول أصلا على هذه الانتخابات وجعلها دورة تدريبية وعملية (تسخين) لانتخابات مقبلة، وبعض آخر من المرشحين راح بنظره بعيدا إلى انتخابات ليست بالضرورة انتخابات (بلدية).

ومن المرشحين من جعل برنامجه الانتخابي قائما على الصور اللامعة والدعايات الساطعة والندوات الماتعة والموائد الفاجعة، فاستضاف لمخيمه الانتخابي الأسماء الرنانة والشخصيات الطنانة، فتكاثر عليه القوم بعد أن دسم شواربهم منتشيا بقول الشاعر (رأيت الناس قد مالوا... إلى من عنده مال)، ولم يفطن إلى أن من مال إلى دراهمه اجتراعا، مال عنه اقتراعا، لقد ظن أن هذا الجمع المحتشد سينفعه يوم المعركة الانتخابية، ويا ليته علم أنه سيهزم الجمع يوم الاقتراع ويولون الدبر.

ومنهم من ترشح شرفيا، فلا صالوا ولا جالوا، ولا جدوا ولا وجدوا، ولا جاهدوا ولا اجتهدوا، واكتفوا من معركة الانتخابات بالمراقبة ومن غنيمتها بالإياب، فظنوا أن السماء تمطر أصواتا وأن الأرض تنبت ناخبين، ولم ينقصهم إلا (درة الفاروق عمر)! اختاروا مكانهم في كراسي المتفرجين وغفلوا أن موقعهم على خشبة المسرح، أصابهم (حول انتخابي) فجلسوا على مقاعد في استاد المباراة، ونسوا أن مكانهم ساحة الملعب مع اللاعبين، هؤلاء لا يدري أحد لماذا ترشحوا وعلام ترشحوا ولا هم أنفسهم يدرون.

لقد أفرزت انتخابات المجلس البلدي ثلاثة أصناف من الناس، صنف إيجابي تجاوب مع فرصة الانتخابات بالترشيح أو الانتخاب أو بالمشاركة، وصنف سلبي لم يأبه ولم يكترث، ولم يهتم فبدت له الانتخابات كشيء وقع على انفه ثم طار فلا يدري لماذا وقع ولا لماذا طار! وصنف متشائم كالحطيئة لا يرى إلا السيئات ولا يبدو له إلا السلبيات، فهو همزة لمزة يتهكم على عباد الله المرشحين ومن انتخاباتهم، ويسخر ويثبط ويخذل ويشكك، وعنده أن ما تمنحه الدولة أو تننازل عنه أو تقدمه، فالأصل فيه السوء ولا يستحق إلا التجاهل والازدراء.

أبرز إيجابيات هذه الانتخابات على الرغم من رمزيتها ومحدوديتها، أنها أفرزت على السطح وبصورة جلية طبيعة توجه المجتمع السعودي ورغباته، فقدمت النتائج وبلغة الأرقام أنموذجا مصغرا عما يريده السعوديون ومن يريدون، وإن كان ثمة حاجة ماسة للتفريق بين الصلاح والصلاحية، فليست الأولى لازمة للثانية، كما أثبتت النتائج أن الرهان القبلي رهان لا يعول عليه كثيرا وأن السعوديين قد تجاوزا هذا الهم بصورة لافتة للنظر، ويتوقع الكثير أن في قلة تأثير الهاجس القبلي في هذه الانتخابات تشجيعا للدولة، لكي تقدم على تجارب انتخابية أكبر في الكيف وفي الكم.

* كاتب سعودي