ملامح صفقة تجري: سلام (ناقص) مقابل (عدم) الإصلاح؟

TT

كان لافتا للنظر تصريح وزير الخارجية الإسرائيلي سيلفان شالوم، في زيارته الأخيرة لمصر التي تمت في الثاني عشر من أبريل الجاري والتي أعلن فيها أن إسرائيل تأمل في التطبيع مع عشر دول عربية، قالها بثقة تدل على أن ثمة صفقة قد عقدت، والتي يكون عنوانها الأساسي هو سلام (ناقص) مقابل (عدم) إصلاح أو تأجيله.

كعادتي أحاول البحث فيما وراء الحدث، وبالفعل اتضح لي أن ثمة صفقة تلوح في الأفق، وهذا ما قد يخمنه أي قارئ. ولكن ملامح الصفقة وتفاصيلها هي الأمر الذي يحتاج إلى البحث والتنقيب.

أطراف الصفقة ثلاثة; الجانب الإسرائيلي، والجانب الأميركي، والجانب العربي.

بالنسبة للجانب العربي كما هو واضح لكل المتابعين للشؤون العامة، يقع العرب الآن، وخصوصا النخب الحاكمة تحت ضغوط دولية من قبل الأوروبيين والأميركيين من أجل الإسراع بالإصلاح على المستويين السياسي والاقتصادي، حيث كانت أميركا بالتحديد تطالب العالم العربي بالإسراع في الإصلاح من حيث المضمون ومن حيث المساحة التي يشملها هذا الإصلاح. والهدف الأميركي الاستراتيجي من الإصلاح واضح ضمن استراتيجية أميركا في مواجهة الإرهاب الدولي حيث يقع موضوع الإصلاح ضمن المرحلة الثالثة من الحرب على الإرهاب الدولي، والتي تهدف في المقام الأول إلى تغيير البيئة المولدة للإرهاب، أو ما يسميه الأميركيون تجفيف المستنقعات.

الجديد الآن هو أن ثمة حوارات عربية ـ أميركية، وعربية ـ أوروبية، تهدف إلى تغاضي الطرفين الأوروبي والأميركي عن الضغط في اتجاه الإصلاح إذا ما أسرع العرب بقبول صفقة سلام ناقص مع إسرائيل. شروط هذه المقايضة هو أن يتخلى العرب عن مسألتين رئيسيتين; هما حق العودة للاجئين الفلسطينيين وحدود الدولة الفلسطينية الثابتة والقبـول بمـبدأ الـ«Provisional Boundaries» أو الحدود المؤقتة.

ملامح الصفقة المطروحة تقول بانسحاب إسرائيلي من غزة أولا من أجل بناء الثقة، ثم يأتي بعدها انسحاب من 75% من الضفة الغربية. أي أن الحائط هو الحد بين إسرائيل وبين فلسطين بدرجات متفاوتة.

رئيس الوزراء الإسرائيلي الليكودي، ورغم أن الكثيرين يشككون في رغبته في السلام، إلا أنه لا يرى في الأفق سوى هذه الصفقة التي لا يستطيع بدونها الحفاظ على إسرائيل كدولة يهودية نقية، وخصوصا في ظل التغيرات الديمغرافية والزيادة المطردة في نسبة التوالد بين الفلسطينيين. هذا التوالد قطعا سيؤدي إلى تغيير هوية الدولة وتركيبتها العرقية والدينية. وهذا هو الذي جعل القيادة الإسرائيلية دائما ترفض فكرة الدولة ثنائية العرقية، وذلك لأن تزايد نسبة السكان الفلسطينيين سيؤدي في النهاية إلى ذوبان اليهود وبقائهم كأقلية في دولة يسيطر عليها العرب، وهذا يعني نجاح استراتيجية الراغبين في القضاء على إسرائيل.

الولايات المتحدة لها مصلحة مباشرة في عقد صفقة السلام الناقص مقابل عدم الإصلاح. المصلحة الأولى تتمثل في نزع فتيل العنف، وكذلك تخفيف كراهية العرب لأميركا حيث تكون قد منحتهم ما أرادوا وأكدت مصداقية الرئيس بوش في إقامة دولة فلسطينية مستقلة بغض النظر عن نوعية هذا الاستقلال. أما المصلحة الأخرى الجانبية للولايات المتحدة فتتمثل في أن عملية السلام هذه ستوفر غطاء سياسيا لانسحاب جزء كبير من قواتها من العراق. (ترقبوا بداية هذا الانسحاب وتزامنه مع الصفقة)، أي أن المشروع المطروح يؤدي غرضا سياسيا للجميع في هذه الورطة التـاريخية التي تعيشها الأطراف الثلاثة.

وقد رأينا مؤشرات كثيرة في دول عربية مختلفة تمهد لهذه الخطوات، من مصر إلى تونس إلى قطر والبقية تأتي. فمثلا نجد أن مصر وقعت اتفاق الكويز أو إن شئت سمه (الاتفاق الكويس) الذي بمقتضاه تكون لإسرائيل نسبة عمولة تصل إلى 11% عن كل ما تصدره مصر إلى الولايات المتحدة من منسوجات. كما أن مصر أيضا جاهزة للتوقيع على اتفاق بيع الغاز لإسرائيل. أما سوريا، وهي حجر العثرة الأخير بالنسبة لإسرائيل، فإن المصادفة (المقصودة) لإخراج المصافحة الشهيرة بين الدكتور بشار الأسد والرئيس الإسرائيلي موشيه قصاب أثناء حضورهما لجنازة البابا الراحل يوحنا بولس الثاني، تؤدي غرضا محددا، فلا يمكن قراءة هذه المصافحة بمعزل عن هذه التطورات. حتى إيران دخلت في هذه الصفقة ومصافحة الرئيس الإيراني محمد خاتمي مع نظيره الإسرائيلي يمكن أن تُفهم في هذا السياق ولكنها بعنوان آخر، العنوان هنا هو السلام مقـابل السكوت عن البرنامج النووي الإيراني.

وتونس أيضا التي كانت مقر القيادة المركزية لمنظمة التحرير الفلسطينية أصبحت الآن تدعو شارون لزيارتها، ولم تعد الآن أقل انفتاحا من قطر في تعاملها مع إسرائيل.

التعاون القطري ـ الإسرائيلي كانت آخر مؤشراته زيارة نائب وزير التعليم الإسرائيلي إلى الدوحة، بالإضافة إلى التعاملات التجارية القائمة بين البلدين. وهناك أيضا حالة الرجل الإماراتي الذي ذهب إلى إسرائيل ليشتري المستوطنات. وحتى حكومة اليمن التي ظلت بعيدة عن ساحة الصراع العربي ـ الإسرائيلي بدأت تشن في الشهور الأخيرة حملة ضارية على متطرفي الشيعة والذين رفعوا شعارات معادية لإسرائيل، بالتزامن مع انتعاش الاتصالات المتعلقة بتسهيل هجرة اليهود اليمنيين إلى إسرائيل والسماح للمهاجرين السابقين منهم بزيارة اليمن بجوازات سفر أميركية وأوروبية أو بوثائق خاصة يحصلون عليها بعد إيداع جوازات سفرهم الأصلية في السفارة اليمنية بالأردن.

نحن الآن أمام مرحلة ضغط كبيرة على الدول العربية المحيطة بإسرائيل والبعيدة عنها حتى تصلح هذه الدول من وضعها الداخلي، وكذلك تتجه إلى تحقيق سلام مع دولة إسرائيل حتى تخرج المنطقة من نمط الاضطراب السياسي والاقتصادي إلى مرحلة الاستقرار.

معظم الدول العربية في رأيي قررت أن تتعامل مع الأمر في إطار المقايضة، أي أننا لن نتحرك في الإصلاح، ولكننا سنتحرك في السلام كبديل.. أو بتعبير آخر، نتحرك في الإصلاح ببطء شديد ونتحرك في اتجاه السلام والتطبيع بسرعة شديدة، أي (الهرولة على رأي عمرو موسى) الذي كان احتجاجه عليها قبل الحادي عشر من سبتمبر، أما الآن فهناك أكثر من هرولة; هناك تسابق في الجري تجاه شارون، ليس لأن العرب يحبون شارون ولكن لأن الجري في اتجاه شارون هو المُنقذ الوحيد لكثير من الأنظمة العربية من استحقاقات الإصلاح الداخلي، أي إذا كان شارون واقفا في الغرب والإصلاح في الشرق، فكلما جريت في اتجاه شاورن ابتعدت كثيرا عن الإصلاح.. وهذا ما نراه اليوم بدرجات متفاوتة في الدول العربية المختلفة التي يعقد بعضها صفقات تجارية مع إسرائيل بينما يدعو بعضها مسؤولين إسرائيليين لزيارة بلدانهم، في حين يغازل البعض الآخر إسرائيل بحديث صحافي هنا أو مصافحة بالأيدي هناك.

هذا كله يصب في إطار تهيئة الرأي العام كي يتقبل الصفقة التي تكاد تكون قد انتهت تماما، وما يبقى إلا توقيت بداية الانسحاب الأميركي من العراق حتى تدور العملية.

في النهاية ان الصفقة التي أتحدث عنها ليست من نسج الخيال، وأحب أن اذكر أنني في السابق كتبت عن حوار بين الإخوان المسلمين والأميركان بتاريخ 25 نوفمبر 2003، ورد عليّ مرشد الجماعة مكذبا ما قلت على صفحات «الشرق الأوسط» نفسها، ورددت عليه بدوري مؤكدا ثقتي بمصادر معلوماتي وأعطيته مؤشرات لهذه المصادر. والآن وبعد مضي أكثر من عام على نشر المقال، ظهرت أنباء الحوار الإخواني ـ الأوروبي والإخواني ـ الأميركي إلى العلن، حيث بدأت كل من الولايات المتحدة وأوروبا ليس في الحوار فقط وإنما تمويل بمؤسسات إخوانية تحت مسميات معاهد ومبادرات ومؤتمرات تحت يافطة «الإسلام والديمقراطية» وغيرها من العناوين المألوفة. إذن لم أكن أكذب يومها.. ولا أكذب اليوم في شأن صفقة السلام (الناقص) مقابل (عدم) الإصلاح. وستثبت الأيام صدق ما أقول، وربما بصورة أسرع مما حدث في موضوع حوار الأميركان والإخوان!