إلى أين تتجه العلاقات الأمريكية ـ الأوروبية؟

TT

عند متابعة الخط العام للسياسة الخارجية الأمريكية على امتداد الأشهر الأخيرة، وتحديدا منذ بداية الدورة الثانية من حكم بوش الابن، نلحظ وجهة جديدة في التعامل مع الأوروبيين، وجهة تتسم عامة بروح وفاقية بارزة، ورغبة واضحة في تجاوز مخلفات الدورة الأولى من حكم بوش، التي كانت مكلفة لكل من الطرف الأمريكي والأوروبي على السواء. فقد بينت زيارة بوش إلى العواصم الأوروبية الكبرى، باريس وبرلين ولندن، وقبل ذلك قدوم وزيرة الخارجية كوندوليزا رايس إلى أوروبا، ثم اجتماع الحلف الأطلسي، بينت رغبة أمريكية جلية في استعادة اللحمة الممزقة مع «الشركاء» الأوروبيين، وحرصا على إعادة وصل ما انقطع من خيوط الارتباط بين جانبي الأطلسي.

لا شك أن بوش في دورته الجديدة يبدو حريصا أكثر من أي وقت مضى على رأب الصدع الذي حصل بين جناحي الغرب الأوروبي والغرب الأمريكي الأطلسي، وذلك بسبب الصعوبات التي واجهت وما زالت تواجه مشروعه «الطموح» في إعادة تشكيل الخارطة الشرق أوسطية من خلال نافذة العراق، فضلا عن ظهور مخاطر عالمية جدية ومحقة تفوق كثيرا «الخطر» العراقي المفترض، وعلى رأس ذلك تنامي القوة الصينية، وبدرجة أقل صعود الهند، ثم العودة النشيطة لروسيا سواء في منطقة آسيا الوسطى أو في الفضاء الشرق أوسطي من خلال النافذة الإيرانية والسورية، رغم الضربات الموجعة التي تلقتها في جورجيا ثم أخيرا في قيرغيزستان. أما على الجهة الأخرى، أي من جهة الأوروبيين، فهم في حقيقة الأمر لا يقلون رغبة في تجاوز جراحات الأمس القريب، وفي استعادة قدر من الدفء المفقود في العلاقة مع القوة الأمريكية، وذلك بسبب الإرهاق المتبادل الذي خلفه هذا الاستقطاب الساخن والبارد بين الطرفين.

من المؤكد هنا أن الصعوبات الكبيرة التي واجهت، وما زالت تواجه، القوة الأمريكية في أرض العراق، إلى جانب حدة المنافسة الدولية وما رافقها من ظهور متغيرات جديدة، ولاعبين جدد، غذت الإحساس لدى الطرف الأمريكي بضرورة الاستعانة مجددا بالأمم المتحدة، بعدما كان آيديولوجيو البنتاغون يحمدون الله على نهايتها، كما دفعها ذلك إلى استعادة قدر من اللحمة مع الشركاء الأوروبيين بعد سنوات الاحتكاك. وبشيء من الرصد العام لخطوط السياسة الأمريكية، يمكن القول إنها فعلا بصدد إدخال مراجعات حقيقية على استراتيجيتها العسكرية على نحو ما ضبطت معالمها استراتيجية الأمن القومي التي صادق عليها الكونغرس الأمريكي في شهر سبتمبر من سنة 2002 .

سبق لمساعد وزير الدفاع الأمريكي لشؤون السياسة دوغلاس فيث، أن صرح قبل أسابيع قليلة فقط بأن هناك دعوات وجهت، ولأول مرة، إلى حلفاء الولايات المتحدة الأمريكية، للمشاركة في مراجعة عسكرية سرية للغاية من أجل التوصل إلى تفاهم مشترك بشأن التهديدات والقدرات العسكرية اللازمة لإلحاق الهزيمة بها، على حد قوله.

ولا يحتاج المرء هنا إلى قدر كبير من الذكاء لفك شيفرة هذا التصريح، بما في ذلك نوعية التحالفات، وطبيعة الشركاء، ونوعية الخصوم والأعداء التي تتجه الإدارة الأمريكية إلى ضبط أسمائهم. فما يمكن أن نستشفه من جملة تصريحات المسؤولين الأمريكان، فضلا عما يمكن رصده من منحنيات السياسة الأمريكية خلال الأشهر الماضية، جانبان اثنان: أولا، أن القوة الأمريكية بصدد التخلي عن مقولة عزيزة على قلب المحافظين الجدد مفادها أن نوعية المهمة هي التي تحدد التحالفات بدل وجود تحالفات دائمة وثابتة، وذلك في إطار ما سمته بالتحاف الإرادي، وذلك بعد أن اصطدمت هذه الإدارة بثقل الأعباء والتحديات الدولية بما لا تقدر قوة وحيدة ومنفردة على تحمل أعبائها مهما كانت قدراتها وجبروتها، وهو ما يؤكد فشل السياسة السابقة المراهنة على فرض واقع دولي انفرادي بقوة السلاح والماكينة العسكرية العارية. وعند التشخيص الدقيق لا يمكن فهم هذه العودة إلا كونها نوعا من الإقرار الصامت والضمني بفشل الاستراتيجية الانفرادية وسياسة العضلات المفتولة التي حكمت الحقبة الأولى من حكم بوش الابن. ثانيا: إن مطلب «تعزيز الشراكة» الذي صار عنوانا للخطاب الرسمي الأمريكي، يتجه أساسا إلى مواجهة التهديدات الناشئة بغرض ما سماه فيث إلحاق الهزيمة بها، وهو من دون شك يقصد الصين على وجه الدقة وليس أي قوة أخرى، وذلك بسبب تنامي قدراتها العسكرية بالتوازي مع نجاحاتها الاقتصادية الملحوظة على امتداد العشرية الماضية، أي أن إدارة بوش في دورتها الثانية تراهن على سد «الثغرات» الاستراتيجية التي لازمت الحقبة الأولى، وفي مقدمة ذلك مواجهة التحدي الصيني المتفاقم.

من الواضح هنا أن إدارة بوش قد حزمت أمرها باتجاه تطويق الصين والحد من طموحاتها الإقليمية والدولية، وذلك عبر فتح جبهة تايوان من جهة، ثم توثيق الشراكة الاقتصادية والعسكرية مع الجار الياباني.

وإذا ما توقفنا عند سياسة الأوروبيين، يتبين أنهم يعملون فعلا على تجاوز حالة الاحتقان التي حكمت علاقتهم بالطرف الأمريكي خلال السنوات الماضية، مراهنين على عودة الأمريكان إلى تقاليدهم البراغماتية، والتخفيف من غلواء الوثوثقية الآيديولوجية في إدارة دفة العلاقات الدولية، إلا نهم ليسوا على استعداد للعودة بالكامل إلى بيت الطاعة الأمريكي بأي صورة وبأي ثمن، كما أنهم على ما يبدو ليسوا على استعداد للتخلي عن طموحهم في إقامة نظام دولي متعدد القطبية تنال فيه القارة «العجوز» حظا يناسب حجمها الاقتصادي وتكتلها السياسي المتنامي. أي أننا هنا إزاء نوع من التجاذب البارد بين القوة الأمريكية التي تعمل على تجيير الأوروبيين لصالح أجندتها الخاصة لمواجهة ما تعتبره تحديات استراتيجية كبرى تتعدى الملف العراقي، وحتى الشرق أوسطي عامة، وبين الطرف الأوروبي من الجهة الأخرى الذي يعمل على جر القوة الأمريكية إلى شراكة حقيقية وجدية في إدارة الوضع الدولي.

إلا أنه عند التمحيص الدقيق يتبين أن أجواء الوفاق الظاهري وعودة الشراكة الأمريكية مع الأوروبيين تظل مسكونة بنقاط احتكاك وتوترات كثيرة، بما يرجح القول بأن حالة الانقسام التي أعقبت الحرب على العراق، أضحت أمرا واقعا لا يمكن الرجوع إلى ما قبلها، وإن كان من الممكن التخفيف من حدتها وضراوتها ببعض التنازلات في هذا الموقع أو ذاك من العالم، أو ببعض المجاملات الديبلوماسية وليس أكثر. فالعودة الأمريكية تظل مشروطة ومحكومة بخطوط الرؤية الأمريكية لبنية العلاقات الدولية، هذه الرؤية القائمة في جوهرها على نظام أحادي القطبية، مع شيء من الترضيات والشراكة الجزئية مع بعض القوى الدولية، وفي مقدمة ذلك الأوروبيون، ولكن بما لا يمس مبدأ الانفرادية الأمريكية، فكوندوليزا رايس نفسها ورغم ما صاحب محاضرتها في الكوليج دي فرانس من ابتسامات ومجاملات كبيرة، لم تتردد في تذكير الأوروبيين بضرر تعددية الأقطاب التي أعقبت الحرب العالمية الثانية، مع التحذير من مخاطر العودة مجددا إلى هذه التعددية «الكريهة». أما الطرف الأوروبي فهو مصمم على ما يبدو على فرض تعددية القطبية وأخذ موقع يناسب حجمه الاقتصادي المتنامي وطموحاته السياسية المتزايدة ضمن وعاء المحور الألماني ـ الفرنسي ـ الاسباني، الأمر الذي يرجح أن هذا الالتقاء الأمريكي ـ الأوروبي ليس إلا سحابة صيف عابرة وليس أكثر.

* باحث تونسي في العلاقات الدولية ـ لندن