قصة التحالف بين الطالباني و«منظمة» بدر

TT

في الزيارة التي قام بها اخيراً وزير الدفاع الأميركي رونالد رامسفيلد إلى العراق، حث رئيس الوزراء العراقي الجديد ابراهيم الجعفري على ضرورة تشكيل الحكومة. ويتخوف المسؤولون الأميركيون من تدهور الأوضاع في بلاد ما بين النهرين «حيث انها قبل اسبوعين كانت أفضل مما هي عليه الآن»!

بعض المراقبين يتساءل عما اذا كانت هناك من «مؤامرة» يقوم بها الرئيس العراقي الجديد جلال الطالباني مع المجلس الأعلى للثورة الاسلامية خصوصاً بعدما تردد بأن «خدعة مجزرة» المدائن. نصبها اعضاء من المجلس الأعلى للثورة الاسلامية، الأمر الذي دفع عبد السلام الكبيسي احد كبار علماء السنة الى القول: «انها كانت حجة لتكرار فالوجة صغرى».

لا أحد يعرف كيف جرت قصة المدائن أو ما جرى فيها. انما الكل شاهد على شاشات التلفزيون الطالباني المنفعل، وهو يعلن عن اكتشاف 50 جثة في نهر دجلة وانه يعرف اسماء الضحايا المخطوفين واسماء القتلة الخاطفين! وقال: ان صور الضحايا ستنشر مع اسمائهم واسماء المجرمين. لكن، حتى القوات الأميركية رفضت الاتفاق معه، وقالت الشرطة المحلية ان الجثث التي تحدث عنها الرئيس العراقي تم اكتشافها منذ اسابيع وقبل ازمة المدائن!.

هذه «الحركات» ليست غريبة على الطالباني، فتاريخه مليء بالصفقات الغريبة، يصادق ويعادي، كان في السابق يبرر ذلك، بأنه يفعل ما يفعل لأجل الشعب الكردي، حتى قتاله مع مسعود البرزاني رئيس الحزب الديمقراطي الكردستاني كان يبرره الطالباني، بأنه من اجل مصلحة الشعب الكردي، رغم ان ذلك القتال ادى الى عشرات الالاف من الضحايا الأكراد، فاوض سابقا اسرائيل وشاه ايران، كذلك فاوض سوريا وايران الخميني حتى اثناء الحرب العراقية الايرانية، فكانت مأساة حلبجة، زار انقرة واستقبل مقاتلي حزب العمال الكردستاني، وارتبط بعلاقات مع بريطانيا والولايات المتحدة، واليوم بعدما تسلم سدة الرئاسة العراقية اقترح وصفة حقيقية لحرب أهلية، وهي ان تلجأ الحكومة العراقية الى قوات البيشمركة وفيلق بدر لمقاتلة المتمردين! ويمكن لهذه الحرب، المشتعلة الآن، ان تزداد تأججاً عندما يرسل الطالباني قوات البيشمركة التابعة له لحراسة أبار نفط مدينة كركوك، تماما كما ارسلها الى الموصل وكركوك اثر سقوط النظام العراقي السابق، من دون التشاور مع البرزاني أو مع الاميركيين.

لقد بلغ الطالباني الواحدة والسبعين من العمر، وهو مع تسلمه منصب الرئاسة العراقية، فتح باباً حضارياً في العراق الجديد يؤكد مستقبل الاكراد في عراق ديمقراطي فيدرالي، فلماذا اذن اقتراح العمل بنظام الميليشيات أو التفكير بتجاوز الآخرين أو بالتواطؤ مع طرف شيعي ضد طرف شيعي آخر؟ خصوصاً ان مقاتلي قوات بدر تدربوا أو بالاحرى تربوا في ايران، فبعضهم ولد فيها وتعلم في مدارسها ولغتهم الفارسية أفضل من العربية ثم ان ولاءهم لآية الله الخميني، يليه على خأمنئي، وللحكومة الايرانية ولأجهزة الأمن الايرانية وليس للدولة العراقية، ويتردد في العراق وبقوة، ان المجلس الأعلى للثورة الاسلامية توصل الى صفقة مع واشنطن، يحصل هو من جرائها على السلطة السياسية وتدير واشنطن صناعة النفط.

ليس الطالباني والمجلس الاعلى للثورة الاسلامية المعرقلين الوحيدين لتشكيل الحكومة، فهناك مقتدى الصدر الذي نظم مظاهرة «يوم التحرير» في ساحة الفردوس في العراق وطالب بخروج القوات المحتلة. ويبدو ان الصدر تعلم من مواجهات العام الماضي بين قوات المهدي والقوات الاميركية. فمجموعته تحتل 23 مقعداً في البرلمان الجديد، ورغم ان مجموعته فازت بـ 12 مقعداً من أصل 41 في مدينته البصرة، وفاز المجلس الأعلى بعشرين، إلا انه نجح في تشكيل تحالف جعله الآن المسيطر الأول على البصرة، وقواته فيها اقوى من فيلق بدر ويعود «الفضل» لقوات المهدي لعدم سيطرة قوات فيلق بدر على كل المؤسسات الحكومية في الجنوب. ويجعل الصدر واتباعه بدورهم موقف الجعفري حرجاً وصعباً، ويبدو ان حملته لأنهاء الاحتلال بدأت تلقى تعاطفاً من العراقيين الذين يعانون من صعوبة المعيشة وما يصلهم عن الفساد في بغداد اضافة الى بطء التقدم في العملية السياسية.

ان الكثير من القضايا المتفجرة تسيطر على العراق الآن، الفيدرالية، وكركوك والنفط، ويعرف العراقيون انه من المستحيل وضع مسودة للدستور العراقي الجديد، الذي سيعالج كل هذه القضايا في فترة اربعة أشهر كما يطالب الاميركيون، فإذا عاش العراق تسعة اسابيع صعبة ليختار البرلمان المنتخب رئيساً ونائبي رئيس ورئيساً للوزراء، فكيف يمكنه ان يجد حلولاً لكل هذه المشاكل المعقدة، وسياسيوه يظهرون عن تقاتل داخلي فاجأ حتى العراقيين المسيسين؟ فالشيخ غازي الياور احد نائبي الرئيس منزعج جداً، الأكراد والشيعة الذين يصرون على اعطاء السنة العرب اربعة مقاعد وزارية بدل ستة مقاعد كما هو متفق، مع العلم ان الجعفري كان قد قال: اذا تم اختياري رئيساً للوزراء فسوف أعمل لأشمل السنة في العملية السياسية، فأنا لا اتصور حكومة من دون السنة والشيعة والأكراد، فهم العناصر الرئيسية للمجتمع العراقي». وبدأ السنة المعتدلون يتهمون الشيعة والأكراد بالعمل على تهميشهم، وجاءت قصة المدائن، كنوع من زيادة تلطيخ وجه السنة العراقيين وبأنهم يمارسون سياسة التطهير العرقي.

من جهة فإن اياد علاوي، رئيس الوزراة المنحلة غاضب هو الآخر، فهو يريد وبأي ثمن وزارة الداخلية كي يعيد تنظيم اجهزة الاستخبارات والأمن، غير ان المجلس الأعلى للثورة الاسلامية يرفض باصرار ويريد لهذا المنصب هادي العامري أمين عام فيلق بدر الذي صار يسمى بـ «منظمة بدر». وبهذا تتكاثر الشكوك بين العراقيين من سنة وشيعة واكراد مع هجرة المسيحيين الى اميركا.

ويضاف الى هذا المزيج المرعب جنوح المتشددين من السنة الذين «ينتعشون» بقتلهم الشيعة، فيما يمارس بعض من الشيعة، بـ«هدوء» القتل السري لسنة بعثيين أو متعاونين مع النظام السابق، أو للانتقام.

كل هذه «الخلطة» من السموم الدموية يراها العراقي العادي تصب في مصلحة المحتل، وحسب الذين استطاعوا الوصول أخيرا من العراق، فقد عاد العراقيون الى المعاناة من انقطاع الكهرباء التي تعرقل معها كل الانظمة الحياتية، من اتصالات وصناعة ومستشفيات كما ان محطات المياه التي اعادت بناءها شركة «بكتل» الأميركية، تتعطل باستمرار، وهناك اسبوعياً هجمات على امدادات النفط، وما زال انتاج العراقي النفطي اقل مما كان عليه زمن صدام حسين، كما ان ستين بالمائة من العراقيين ما زالوا يستعملون «الكوبونات» لتأمين غذائهم. ويقولون ان بغداد تحولت الى اسوار شائكة وجدران اسمنتية، وان سيارات «بي* أم دبليو» يستعملها الخاطفون الذين يطالبون بفدية مالية باهظة أو يقتلون على الأكثر، تحت شعار المطالبة بالتحرير، أما سيارات الجيب فهي سيارات العمليات الانتحارية التي تستهدف الشرطة العراقية، وصار العراقيون الذين يصطفون صفوفاً طويلة أمام محطات الوقود، يتخوفون من جنون انتحاري يمكن ان «يطور تفكيره الاجرامي ويستهدفهم«، ويقول المقبلون من العراق، ان هناك احياء كاملة في العاصمة صارت تحت امرة المنظمات الاجرامية المحلية، ومهربي المخدرات تحولت الى مراكز للبغاء وبيع الاعضاء الانسانية، وان غرب العراق هو بأكمله خارج السيطرة الأميركية، وان الموصل امتلأت بالمتمردين المتشددين وان الرمادي عاصمة المثلث السني عاصمتهم حيث الداخل اليها مفقود، ولا خارج منها.

ويروي المقبلون، ان الكل صار يعرف ان لا شيء يتحقق في العراق من دون موافقة السفارة الأميركية وان السفير الأميركي الجديد في العراق زلماي خليل زاد الذي كان انجازه في افغانستان، اختصار البلاد كلها في كابول ووضع الرئيس الأفغاني في ما يشبه «الاقامة الجبرية» في قصره في كابول وسط حراسة اميركية، ولا يخرج الا ليلقي تصريحات تدعو الى بقاء الأميركيين في افغانستان، السفير نفسه يريد اختصار العراق في المنطقة الخضراء فقط! ويضيفون ان السنة العراقيين والشيعة الفقراء المتعاطفين مع مقتدى الصدر صاروا متأكدين من ان السفارة الأميركية في بغداد، لن تسمح الا بوزراء ينفذون جدول الاعمال الاميركي!.

ويلفت هؤلاء، ان الجعفري، وحسب الدستور العراقي المؤقت، اذا عجز عن تشكيل حكومة عليه التنحي بعد اكمال شهر على اختياره للمنصب، وهو تسلم منصبه في السابع من الشهر الجاري ويقولون ان اميركا، في مثل هذه الحالة، ترشح اثنين اما علاوي أو عادل عبد المهدي وزير المالية السابق، الذي اعلن في مؤتمر صحافي عقده في شهر ديسمبر (كانون الأول) الماضي في واشنطن انه يشجع على خصخصة قطاع النفط، وتريد واشنطن اضافة الى هذا ان تملك المؤسسات الغربية التي تقدم القروض، اغلبية الاسهم في البنك المركزي العراقي!

قد تكون في كل هذه التفاصيل مبالغات، لكن الوضع في العراق لا يطمئن العراقيين، واذا كان هناك تخوف من احتمال تقسيمه فإن الوضع على الأرض حالياً أسوأ من التقسيم، فكل فريق سياسي لديه مخططه الذي لا يلتقي مع مخططات الاخرين، حتى مخططا الطالباني والمجلس الاعلى للثورة الاسلامية لن يلتقيا الا مرحلياً، ثم ان المدن العراقية بما فيها اجزاء كبيرة من بغداد، تتخبط تحت حكم ميليشيات سنية أو شيعية، والقوات الأميركية تلتزم داخل قواعدها*

وحتى، لو نجح الجعفري في تشكيل حكومته، فهل يمكن للوزراء الخروج من خلف جدران المنطقة الخضراء! الوحيد الذي يتجرأ على الخروج هو اياد علاوي، ولهذا تعرض حتى الآن لخمس محاولات اغتيال.

العراقيون في حاجة الى 14 مارس (آذار) لبناني، يخرجون فيه بمظاهرات تجمع كل طوائفهم واثنياتهم ليفرضوا على زعمائهم، وعلى الأميركيين المحتلين وعلى جماعات الزرقاوي، حقهم بالحياة والسيادة والحرية والاستقلال.