وعاظ التلفزيون والعلمانية الملتبسة

TT

أثار مقال الصديق مشاري الذايدي حول وعاظ التلفزيون الجدد ضجة واسعة بين قراء «الشرق الأوسط»، ومتابعي الخطاب الإسلامي الجديد الذي يهيمن عليه هذا النمط من الوجوه الثقافية ـ الإعلامية الذي يختلف جذريا عن الوجوه المألوفة سابقا في هذا الحقل.

وقد لاحظتُ باستغراب خلال معارض الكتب العربية التي تسنى لي حضور العديد منها، أن كتب هؤلاء «النجوم» هي الأوفر حظا في الانتشار، يقبل عليها الناس، وتتالى طبعاتها بانتظام ويتسابق عليها الناشرون. وقد أخبرني أحد الناشرين أنه وزع من كتاب للداعية المصري عمرو خالد أكثر مما وزّع من كل الكتب الفكرية والسياسية. والطريف في الأمر، أن هؤلاء الوعاظ الجدد ليسوا في الغالب من ذوي التكوين الديني، بل إن ثقافتهم الشرعية بسيطة ومحدودة، لا تتجاوز في الغالب كتب الرقائق والسير وقصص الصالحين. بينما يجتهدون في الظهور بمظهر تحديثي ـ في الشكل على الأقل ـ يوظفون أدوات وآليات الاتصال المعاصرة في الوصول للناس، ويتعرضون لهموم المجتمع وإشكالاته اليومية، جمهورهم في الغالب من الشباب والنساء وأفراد الطبقة الوسطى.

وقد لا نرى خطورة في مثل هذا الخطاب الذي يستجيب سوسيولوجيا ونفسيا لحاجيات مجتمعية معقدة وملتبسة ليست دوما حاجيات روحية (بعضها تتعلق بالحاجة إلى خلق فضاءات تواصل حميمة وروابط تعاضد في مجتمعات تتزايد فيها وتيرة الفردية الملازمة للحداثة)، وإنما مكمن الإشكال هو هيمنة هذا الخطاب على الحقل الثقافي الإسلامي في مرحلة حرجة ومفصلية، تواجه فيها الثقافة الإسلامية تحديات نوعية جسيمة لا يمكن أن تعالج بخطاب نجوم الوعظ الجدد.

والخطر يشتد عندما يبدأ هؤلاء يدلون بدلوهم في القضايا الفكرية والمجتمعية الكبرى، مثل رهانات الحداثة والعلمنة والعلاقة بالآخر، ومسائل الاجتهاد والتجديد. وهم يصدرون في الغالب في نظرتهم لهذه الموضوعات الحيوية من مصادرات وأحكام مبسطة، لا تصمد للتمحيص والنقد، وإن كانت تتحول الصورة إلى حقائق متداولة ومنتشرة على نطاق واسع.

ومن المفارقات المثيرة، أن هذا الخطاب الذي يستمد «شرعيته» وجاذبيته من حسّ الأصالة والهوية وإدعاء القطيعة مع القيم والمفاهيم الغربية، يصدر في خلفيته عن رواسب تحديثية غربية غير واعية ولا منسجمة.

وسنكتفي بالوقوف عند مفهومين مركزيين في هذا الخطاب هما: مفهوم «الإعجاز العلمي» وثانيهما مفهوم «الدولة الإسلامية». أما المفهوم الأول الذي أشار إليه الزميل مشاري الذايدي، فيشكل منذ الحلقات التلفزيونية الأولى للطبيب المصري مصطفى محمود في السبعينيات هما محوريا في الخطاب الإسلامي المشترك وقد تجذّر وتوطد بكتب عالم الجيولوجيا زغلول النجار وبرامجه التلفزية وأشرطته السمعية ـ البصرية الواسعة الانتشار. ويصدر هذا المفهوم عن مصادرة احتواء القرآن الكريم لآيات تتضمن آخر الحقائق العلمية المكتشفة في العصر الراهن مما يدل على يقينيته ومصدره الإلهي.

فالخلفية التي يصدر عنها هذا التصور هي كما هو واضح خلفية نظرية وضعية هي في عمقها لادينية، بما تقرره من حصر الحقيقة الموضوعية (أي المتعلقة بالطبيعة)، بالاختبار التجريبي لتجريدات رياضية اعتبرت لغة الكون.

فالذين يربطون آيات القرآن الكريم الخالدة المطلقة بهذه النظريات والقوانين التجريبية يرتكبون خطأين: ابستمولوجي وديني. أما الابستمولوجي فهو إعطاء المقولات العلمية سمة يقينية، مع أنها كما بين كبار الابستمولوجيين من أمثال باشلار وكانجلام وكارل بوبر وبريغوجين بناءات نظرية مركبة لا تصف الواقع ولا تضبط قوانينه، ولا تتحرى اليقين، بل معيارها هو النجاعة لا اليقين، وسمتها هي القابلية للتفنيد لا الصدق، ومآلها هو التحول والتغيير لا الثبات والاستقرار، فعبارة «إعجاز علمي» هي في حقيقتها عبارة هشة معرفيا ومنهجيا.

أما الخطأ الديني فهو الاستدلال على منطلقات الإيمان والعقيدة بنظريات وأفكار لا تستمد صلاحيتها إلا من كونها معاصرة، بما يترجم الثقة المطلقة في هذه المعارف، على الرغم من خلفيتها التاريخية المحددة، حتى ولو كان ينظر إليها بصفتها كونية، كما كان شأن الموروث العلمي اليوناني في العصور الوسطى. فهذه المقولات والنظريات العلمية ليست أكثر يقينية ولا صدقا من علوم أبقراط وجالينوس وفيزياء أرسطو، حتى ولو كانت طبيعة الممارسة العلمية قد تغيرت من حيث الأدوات والآليات. والذين يسخرون اليوم من توظيف الفلاسفة المسلمين بل والعلماء والفقهاء للعلوم اليونانية التي اعتبروها يقينية ومطلقة ولا علاقة لها عضويا بالحضارة اليونانية، يتناقضون مع أنفسهم في تحمسهم لتأويل آيات الاعتبار والتفكير في القرآن الكريم باختزالها في النظريات العلمية المعاصرة.

أما مقولة «الدولة الإسلامية» أي اعتبار الإسلام دينا ودولة، فإن كان منشؤها القول المقبول بشمولية الإسلام أي اهتمامه بكل مناحي الإنسان الفردية والجماعية، إلا أنها تصدر عن تصور علماني مقنع للدين الإسلامي، لم يقبل بها أحد من علماء الإسلام في العصور الوسيطة (على الأقل في التقليد السني الذي اعتبر الإمامة من مصالح البشر وضرورياتهم لحراسة دينهم ودنياهم ليست أصلا من أصول الدين).

فمقولة «الدولة الدينية» لا تستقيم إلا في التقليد المسيحي، الذي قام في تجربته على الربط الوثيق بين الدين والدولة بصفتهما مطلقين متكافئين، مما يفسر امتزاجهما في العصور الوسطى، وانفصالهما في العصور الحديثة بنقل المطلق الروحي إلى المطلق السياسي، أي إعطاء الدولة دور تحقيق وتجسيد المطلقات الروحية والقيمية في التجربة السياسية الإنسانية.

ولذا لم تكن العلمانية ـ على عكس التصور السائد ـ نبذا للدولة الدينية، بل تحقيق موضوعي لها، بإضفاء السيادة المطلقة على الدولة وتحويلها إلى إطار انتماء روحي يتمحّض له الولاء.

ولقد بينت الأبحاث السوسيولوجية الراهنة ، من أمثال أعمال مارسيل غوشيه وسرج ماجيل ، أن المسيحية هي «ديانة الخروج من الدين»، بمعنى أن مفهوم العلمانية متضمن في مقولة التجسد الإنساني للرب، وما تفضي إليه من استتباعات في مستوى استقلالية الوعي الإنساني القادر على التعبير عن المطلق وترجمته موضوعيا في أشكال مؤسسية انتظمت تاريخيا حول محور الدولة.

إن هذا التصور هو الذي تجسده فلسفة الدين لدى هيغل التي اعتبرت أن الدولة الليبرالية الحديثة القائمة على معيار السيادة المطلقة هي المآل التاريخي الضروري لدولة الكنيسة (بصفتها التجسيد الحي والموضوعي للقيم الروحية المسيحية). ومن البديهي أن علاقة الدين بالسياسة في النص الإسلامي وفي الممارسة التاريخية للمجتمعات المسلمة تندرج خارج هذا السياق ولا علاقة لها به.

فليست الدولة في الوعي الإسلامي التاريخي منذ عصر الخلافة الراشدة مؤسسة روحية، وليس بإمكانها احتواء الشرعية الدينية، ولا يتجاوز حقل انطباقها تنظيم شؤون الجماعة والأمة بحسب مصالح البشر المتجددة.

ولذا فتحويل الإسلام إلى دولة يعني علمنته عمليا، والتجارب المعاصرة الراهنة شاهدة على هذه الحقيقة. فقد تحول الإسلام في التجربتين الإيرانية والسودانية (أيام ثورة الإنقاذ) إلى أيديولوجيا قومية لدولة تتحدد هويتها ـ ككل الدول ـ بالمصالح الحيوية، ويفرضها منطق التكيف الاستراتيجي وآليات العمل البيروقراطية الحديثة على أن تكون دولة دنيوية عادية، لا تختلف عن غيرها وإن أعلنت واجهتها الإسلامية.