الواقع العربي بين مقولة الديمقراطية وإعادة اكتشاف الدولة القومية

TT

كيف يمكن قراءة التغيرات السياسية الراهنة في العالم العربي، وهل نحن بالفعل بصدد تحول تاريخي نحو نظم حكم ديمقراطية بعد عقود طويلة من الإدارة السلطوية لمقدرات شعوبنا؟

إزاء التلاحق السريع للأحداث في لبنان ومصر وبعض دول الخليج، ومن قبل في العراق وفلسطين، تبدو هذه التساؤلات وكأنها ملكت ألباب المفكرين والمهتمين بشؤون عالمنا على نحو تتنوع معه الإجابات والنقاشات، ويفرض حتمية الفرز بين الغث والثمين منها. وأبدأ بالفئة الأولى مفرقاً بين ثلاثة اتجاهات للنقاش جميعها ذات طابع أيديولوجي مضلل وغير مجد على الإطلاق. فهناك ولا شك الحديث الاستبعادي الزائف المفاضل بين دور العوامل الداخلية والخارجية في الدفع باتجاه الإصلاحات السياسية، وكأن الأمر يتعلق إما بانصياع الحكام العرب للضغوط الأميركية، أو بتطورات ذاتية في المجتمعات العربية عديمة الصلة بالبيئة العالمية. وإذا كان في الإمكان تفهم أهمية المقارنة بين الداخل والخارج في واشنطن، حيث تسعى إدارة الرئيس بوش إلى إضفاء شرعية متأخرة على حربها في العراق، من خلال التشديد على محورية سياستها في إحداث التغيرات الراهنة، فإن النقاش العربي، إنما يعيد إنتاج مفردات بالية من شاكلة الإذعان والتسليم في مقابل الصمود والتصدي، ويلهي الأنظار عن إدراك مغزى اللحظة الحالية التي ساهم في بلورتها خليط من العناصر المحلية والإقليمية والدولية.

نجد في الكتابات العربية من جهة ثانية ما يمكن تسميته «اقتراب النوايا» المدعي القدرة على معرفة الدوافع الحقيقية للأطراف السياسية الرئيسية، وبالتالي قياس مدى مصداقيتها، وتوقع توجهاتها المستقبلية. الصياغتان الأكثر شيوعاً في هذا السياق هما ولا شك التساؤل حول ما إذا كانت النظم العربية التي أدخلت بعض التعديلات في الفترة الماضية جادة بشأن التغيير أم أنها فقط تنحني للعاصفة حتى تمر ثم التنقيب وراء المعلن من مواقف التيارات الإسلامية المعتدلة الملتزمة بالديمقراطية بحثاً عن نوايا خبيثة قد تجعلها تنفرد بالحكم إن وصلت إليه عن طريق صناديق الاقتراع. تؤدي هيمنة النظرة المتشككة في حكام الإصلاحات الشكلية وذيوع الخوف من إسلاميي مقولة «مواطن واحد صوت واحد مرة واحدة» إلى تجاهل الدينامية التي يرتبها مجرد الحراك السياسي في مجتمعات ظلت جامدة لفترة زمنية طويلة واستحالة السيطرة على مساراتها. يظل الحوار حول مستقبل العالم العربي بذلك حبيس خانة الرؤية الكليانية بمنطق إما النية الخالصة للتغيير وبالتبعية الخير المطلق أو الغياب الكامل لكليهما معاً.

تواجهنا على صعيد ثالث الاستخدامات المضللة لمفهوم التدرجية، خاصة من جانب النخب الحاكمة ومثقفي السلطة، وهي باختصار تغيب عن إدراك مواطنينا حقيقة أن كون التغيير عملية مجتمعية طويلة المدى لا تتحقق بين عشية وضحاها، لا يعني تبرير غياب الرؤية الواضحة لكيفية إحداث نقلات نوعية متتابعة تسهم في صياغة واقع سياسي جديد. يصبح هنا الدفع الرائج بأن المجتمعات الغربية أخذت من الزمن ما يزيد على ثلاثة قرون للانتقال من الحكم المطلق إلى بدايات الديمقراطية الليبرالية، والتلميح من بين السطور إلى أن على عرب الحاضر الاقتداء بصبر الأوروبيين في الماضي السحيق وعدم تعجل الأمور، بمثابة تعامل شديد الانتقائية مع خبرات تاريخية سابقة اختلفت سياقاتها جذرياً عن اللحظة العربية الراهنة، على نحو يجعل من المقارنة درباً من دروب العبث الفكري. الأدق هو أن ننظر حولنا في عالم اليوم ونتأمل في التغيرات السياسية التي تحدث الآن في أوروبا الشرقية وآسيا الوسطى وغيرهما من البقاع لنتحقق من أن التحول نحو أنماط حكم تعددية قد لا يستغرق سوى بضعة أيام.

ما الذي يتبقى لنا إذن من مداخل واقترابات لفهم ما يحدث بين الخليج والمحيط إذا ما استثنينا الغث من نقاشات حول الداخل في مواجهة الخارج، ومكنونات النوايا ومقارنات التاريخ الزائفة؟ قناعتي أن هناك مقولتين حاكمتين تمكنا مجتمعتين من القراءة الموضوعية لواقعنا الراهن. بدايةً لا يمكن تجاهل الفرضية المتفائلة بقرب التحول الديموقراطي في عدد من بلدان المنطقة، والمستندة إلى مجموعة من الشواهد الجديدة على الساحة السياسية العربية. شارك العراقيون والفلسطينيون بكثافة في الانتخابات البرلمانية هنا والرئاسية هناك، وكلاهما جاء على الرغم من وجود جيش احتلال في الحالتين تعددياً ونزيهاً. الأهم من ذلك أن نتيجة الانتخابات العراقية حالت من دون الهيمنة المطلقة للائحة الشيعية الموحدة وأرغمت أتباع السيستاني على الولوج في معترك لعبة التوازنات التوافقية، بما تتضمنه من تقديم تنازلات جوهرية للأكراد في المقام الأول، وتطمينات للسنة ثانياً، حول قضايا التمثيل السياسي والفيدرالية وتوزيع الموارد واستقلالية الأقاليم في علاقتها بالعاصمة، وحدود دور رجال الدين. أما في الضفة وغزة فيبدو أن التأييد الشعبي الذي جاء بمحمود عباس رئيساً ودعم موقفه من استئناف المفاوضات مع الحكومة الإسرائيلية، يدفع بقية الأطراف خاصة حركة المقاومة الإسلامية (حماس) للمسارعة بخطوات الانخراط في العمل السياسي الرسمي بما يتيحه الأخير، رغم كل نواقصه، من إطارات سلمية للحوار والخلاف التعددي حول مستقبل القضية الفلسطينية، والاحتكام وفقاً لبرامج معلنة إلى قناعات المواطنين كملاذ أخير لتحديد الوجهة أو تغيير المسار. وما التزام «حماس» بهدنة الفصائل وعزمها على المشاركة في انتخابات المجلس التشريعي في الصيف المقبل، سوى دليلين بينين على هذا المنحى المؤدي حتماً إلى تعميق الممارسة الديمقراطية.

ومع أن الطابع الاستثنائي للأوضاع في العراق وفلسطين لا يسمح بالقطع، باتخاذهما مؤشرين دالين على مركزية لحظة تحول ديموقراطي في عموم العالم العربي، إلا أن الأهمية الإقليمية لهاتين الحالتين تكتسب أبعاداً مغايرة تماماً حين نضيف للصورة التطورات الراهنة في لبنان ومصر وغيرهما. وبدون إسهاب في معالجة تفاصيل السياقات الثلاثة شديدة الاختلاف يمكن القول إنها تعبر مجتمعة عن بدايات تغير في النمط السلطوي لعلاقة الدولة بالمجتمع، وتؤسس للمنطق غير القمعي في تعاطي النخب الحاكمة مع تطلعات مواطنيها، على نحو يخلق زخما غير مسبوق للتطور السياسي في هذه البلدان.

تأتي المقولة الثانية لتضع رتوشا مغايرة على اللوحة الوردية المتفائلة لبلدان عربية متجهة نحو الديمقراطية والتعددية، وتذهب بالفكر إلى دلالة ما أسميه إعادة اكتشاف الدولة القومية (أو القطرية بلغة التيارات العروبية). ويجد الناظر في مجمل القوى السياسية الفاعلة اليوم في أرض العرب، أن برامجها واستراتيجياتها تستند بالأساس إلى القصر البراجماتي لدورها على حدود المجال العام في الدولة المعنية. ولت زمانية الأيديولوجيات الجمعية التي تخطت باسم الدين أو العنصر إطار الدولة القومية، ورفضت الاعتراف بشرعيتها، لتحل محلها رمزية «الوطن أولاً» بما تعنيه بالأساس من خلاف وحوار وإمكانية توافق حول وضعية حاضره وشكل مستقبله. والواقع أنه لا يمكن فهم التطورات الراهنة بدون أن نمعن النظر في حقيقة استعادة الدولة القومية لهيبتها كإطار أوحد للصراع السياسي، ولصياغة الرؤى حول مضامينه الكبرى، ليس فقط في المجتمعات ذات التركيبة السكانية المتجانسة مثل مصر، بل أيضاً في سياق التعدديات العرقية والدينية، كما هو الحال في لبنان والعراق وغيرهما من البلدان في المشرق والخليج والمغرب.

يستحيل التحدي الذي يواجه الدولة الآن من معضلة تبرير شرعية الوجود إلى كيفية التعامل الأمثل مع شؤون المجتمع المعني، في ظل وعي عام، ما عاد يقبل القهر بدعوة مواجهة أعداء الأمة، ولا تهميش هذه الطائفة أو تلك باعتبارها يد العدو الخفية في الداخل النقي، أو باسم حداثة مزعومة تحتقر ولاءات القبيلة والعشيرة. أمام الدولة القومية فرصة تاريخية لتثبيت شرعيتها من خلال الانتقال من النموذج الأحادي (unitary state) القامع للتنوع، بغض النظر عن مصادره، إلى الاعتراف به وإدارته سلمياً من خلال ميكانزمات تعددية للتمثيل السياسي، وتوزيع عادل للموارد المجتمعية بمعناها الشامل. والأمر جد خطير، فقد تراكمت عهود الظلم بين ظهرانينا، وتبلورت رغبة عارمة لدى المواطنين للمشاركة في الشأن العام، ورفض الاستبعاد بجميع أشكاله، وإن لم تستجب الدولة بالدمج الديموقراطي لتطلعات الشعوب، فسينفجر من الصراعات العرقية والدينية وصراعات الموارد بين الأغنياء والفقراء ما يفوق قدرتنا على التخيل، ويعيد شرعية الدولة القومية إلى موضع المساءلة والتهديد من جديد.

* خبير دراسات الشرق الأوسط بمؤسسة كارنيجي للسلام العالمي بواشنطن