العراق: الدرس الذي أجاد التشريعيون استيعابه

TT

تحدث مع أي شخص مهتم بمستقبل العراق هذه الايام لتجد أن الإحباط يتسيد حديثه، فقد ذكر مسؤول بريطاني كبير معبرا عن مشاعر العاصمة البريطانية تجاه عدم قدرة القيادة العراقية الجديدة على تشكيل وزارة جديدة بالقول: «ما الذي يفعلونه في بغداد؟».

ولكن الاجابة جاءت اخيرا بالامس، واجتاز العراق مأزق تشكيل الحكومة وان كان التأخير قد اتاح لبعض المعارضين الغربيين لعملية تحرير العراق التوصل الى وجهة نظر فادها ان العراقيين والعرب بصفة عامة ليسوا على استعداد للسياسات التعددية، وانه من الافضل تركهم يعانون من طغاة تاريخهم .

ولكني، وبرغم التأخير الذي صاحب تشكيل الحكومة، ارى ان هناك طريقة اخرى للنظر الى التجربة العراقية المعاصرة، فالتأخير المتكرر لتشكيل الحكومة الجديدة، هو في الواقع يعتبر دليلا على ان القيادة العراقية الجديدة تسعى بكل جهد لتحقيق التعددية، وقد استغلت القيادة العراقية الثلاثة اشهر الماضية، كنوع من دورة تعليمية مركزة لتعلم فنون التفاوض السياسي وتشكيل الحلول الوسط. وبالرغم من ان الانتخابات عقدت في 30 يناير، فإن النتيجة النهائية، لم تمنح أي حزب او تجمع اغلبية في الجمعية الوطنية وبالتالي تجعل التحالفات ضرورية، وللعلم فسياسات التحالف عملية مرهقة في افضل الحالات، حتى في الديموقراطيات الناضجة. وفي حالة العراق فقد كان الامر اكثر تعقيدا لان الكتلتين الكبيرتين: القائمة الشيعية والقائمة الكردية، هما نتاج تحالفات تشكلت قبل الانتخابات. فالقائمة الشيعية تتكون تقريبا من 12 حزبا وتجمعا بعضها تشمل اجنحة متنافسة من نفس الحزب، اما القائمة الكردية فقد جمعت معا 6 احزاب وتجمعات، بما فيها البعض ذات التاريخ الطويل من العداوة تجاه بعضها الاخر، وهذا يعني ان على كل من التحالفين الكبيرين، الشيعة والاكراد، حل مشاكلهما اولا قبل الدخول في محادثات مع الآخرين حول مشاركة السلطة.

ولذا فقد شهد الاسبوعان الاخيران من شهر فبراير صراعات داخل الائتلاف العراقي الموحد، وهو الكتلة الشيعية الرئيسية التي يؤيدها اية الله على السيستاني. والقضية الرئيسية المطروحة كانت اختيار رئيس الوزراء.

وكان هناك أربعة مرشحين في هذا المجال يمثلون الكتل الرئيسية الأربع في الائتلاف. وفي مرحلة معينة توجهت كل الجماعات الى السيستاني طالبة منه ان يختار رئيس الوزراء، فرفض لأنه كان يريد ان تبقى الزعامة الجديدة مسؤولة أمام الناخبين العراقيين فقط.

وما أن جرى اختيار الجعفري كمرشح تسوية لرئاسة الوزراء بدأ الصراع حول من يتعين أن يحتل المناصب الرئيسية الأخرى للادارة الجديدة، وخصوصا مجلس الرئاسة الثلاثي، ورئيس البرلمان والوزارات الأساسية.

وتعقدت المهمة بصورة اكبر بسبب قانون ادارة الدولة الانتقالي الذي اعد في عهد بول بريمر، «الباشا» الأميركي الذي حكم العراق حتى تسليم السلطة الى حكومة رئيس الوزراء المؤقت اياد علاوي في يونيو الماضي. ويستلزم قانون ادارة الدولة ان تجري الموافقة على جميع المناصب الرئيسية بأغلبية الثلثين. ومن الناحية النظرية كان بوسع قائمة الائتلاف الموحد الشيعية ونظيرتها الكردية، اللتين تمتلكان سوية أغلبية الثلثين في البرلمان، أن تشغلا كل المناصب كما يحلو لهما. ولكنهما قررتا عدم القيام بذلك لعلمهما بأن ديمقراطية العراق الهشة تحتاج الى أكبر مشاركة ممكنة اذا ما أريد الحاق الهزيمة بالأعداء المسلحين والعازمين على إجهاضها.

وهكذا كرس شهر مارس بأسره للمفاوضات بين زعماء القائمتين الشيعية والكردية. ولم يكن التوصل الى اتفاق في الرأي أمرا يسيرا. فقد أصر الأكراد على الاحتفاظ بحق الفيتو في اطار أي دستور مستقبلي. كما رفضوا حظر قواتهم المسلحة المستقلة المعروفة باسم «البيشمركة» على الرغم من حقيقة انهم يمتلكون هيمنة فعلية على وزارة الدفاع. وفي الوقت نفسه فان الأكراد واصلوا الضغط في اطار ادعائهم بالحق في كركوك بينما اتخذوا اجراءات لتغيير تركيبها الاثني لصالحهم. وفي ظل ظروف أخرى كان لهذه القضايا أن لا تؤدي الى انهيار لمحادثات التحالف فحسب، وانما الى حرب أهلية* وتدعم حقيقة ان الأسوأ لم يحدث مصداقية النظام التعددي الجديد في العراق، الذي يمكن حل المشاكل فيه عبر المفاوضات والتسويات، بدلا من القتال والتطهير الاثني.

وكان بوسع القائمة الشيعية الرئيسية التوصل الى صفقة مع قائمة علاوي وتشكيل وزارة شيعية صرفة* غير ان ذلك كان سيؤدي الى حرب أهلية فيما يثير أيضا معظم جيران العراق.

ويعتبر التوصل الى تسوية مع الأكراد مرحلة واحدة فقط من العملية، كما ان من المهم إشراك السنة في الحكومة المرتقبة. وعلى العكس من الأكراد، الذين نجحوا بفضل التجربة والخبرة السياسية لقيادتهم في كسب نصيب من السلطة اكبر من قوتهم الديموغرافية، فإن العرب السنة يعانون من انقساماتهم الداخلية* فقد ألقت واحدة من المجموعات بثقلها وراء التمرد على أمل إعادة بقايا حزب البعث الى السلطة في بغداد، فيما أبدت مجموعة اخرى، بقيادة شخصيات مثل غازي الياور وعدنان الباجة جي، التزاما حقيقيا تجاه المشروع الديموقراطي. وهناك مجموعة ثالثة، ربما تكون الاكبر حجما، اتخذت موقفا يتسم بالحيطة، اذ حاولت فرض مشعان الجبوري رئيسا للجمعية الوطنية. وكان من المفترض ان يحصل المسلمون السنة على 40 مقعداً على الأقل في الجمعية الوطنية طبقا لقوتهم السكانية، إلا ان الكثير منهم قاطع الانتخابات او امتنعوا عن المشاركة بسبب تهديدات الارهابيين، وبذلك لم يتعد عدد النواب السنة في الجمعية الوطنية 17 عضوا فقط.

على الصعيد النظري، كان بوسع الائتلاف الشيعي تجاهل العرب السنة او منحهم، على الأكثر، تمثيلا اسميا. إلا ان شيئا من ذلك لم يحدث، فقد سعى القادة الشيعة والأكراد لإعادة السنة الى اللعبة السياسية مجددا.

وهكذا، فإن الحكومة الجديدة بقيادة الجعفري متأكدة تقريبا من ان مشاركة ستة من الوزراء السنة على الأقل في صفوفها، بما في ذلك المواقع الرئيسية. وكان العرب السنة قد فازوا مسبقا بمقعد من ثلاثة مقاعد بالمجلس الرئاسي الذي يرأسه الزعيم الكردي جلال الطالباني.

وعلى الرغم من حقيقة ان التأخير في تشكيل حكومة جديدة في بغداد شجع أعمال التمرد في العراق، فإن قيادة العراق الجديدة على صواب في تأنيها الى حين التوصل الى ائتلاف وطني صلب ومتماسك. من المهم ان تكون القيادة الجديدة في موقف صحيح منذ البداية، فإذا كان الانتخابات هي البديل للحرب الأهلية، فلا بد إذاً من ان تمنح ديمقراطية العراق الجديدة اكثر ما لديها لكل قطاعات المجتمع العراقي، من دون التفريط في وحدة البلاد وسلامة أراضيها.

وأخيرا فالشاهد أنه قد اصبح من الواضح بعد 30 يناير الماضي، ان التمرد وحلفاءه ليس لديهما فرصة للسيطرة على السلطة في العراق الجديد، حيث تنبع السلطة من ارادة الشعب* التأخير في تشكيل الحكومة العراقية الجديدة يجب ان ينظر إليه كمؤشر ايجابي يؤكد على ان القيادة العراقية الجديدة تعلمت فن اقتسام السلطة.