المحافظون الجدد... تائهون

TT

تعرضت في المقال السابق لبعض ملامح من فكر وخطط المحافظين الجدد في الولايات المتحدة كما طرحها واحد من الباحثين المنتمين إلى ذلك التيار من دون أن يكون قريبا من أوساط الحكم مما يجعله يدافع عن الإدارة بما يتصور انه موضوع وان كان في الواقع أسير فكر اختلطت فيه الوقائع بالأوهام، والحقائق بالأحلام، والمخاوف الحقيقية بالكوابيس، ونداءات الظلام، وخطط التحرك بالعجرفة والرغبة في الانتقام، وخلق الأصنام ومحاولة فرضها على الأنام7

وقد يكون من المفيد أن أتوقف هذه المرة عند بعض ما تناوله ذلك الباحث ليس في محاولة إقناعه أو إقناع أمثاله فهم ليسوا كما يبدو مستعدين للاقتناع أو النقاش بعدما نحتوا أفكارهم من صخر اصم ليس فيه أية مسام يتسرب إليها شك ولو ضئيل وفكر مختلف ولو قليل، ولكن في محاولة لفهم افضل لأغوار واخطار ما يؤمنون به كأنه دين جديد يدعي لنفسه العصمة كلها والحكمة كلها. ولعله مما يستلفت النظر في هذا الصدد ما ذكره المحاضر من أن الرئيس بوش ـ بعد جريمة الحادي عشر من سبتمبر ـ انقلب من رئيس عادي كان الحكم هو الذي يستهويه الى رئيس مقتنع بأنه حمل رسالة القضاء على الشر، وهو أمر يذكرنا بتصريح سبق أن نسب الى الرئيس ذاته حين سئل مرة اذا كان يتحدث الى «أبيه» فأجاب بأنه يتحدث الى الأب الذي في السماوات. وسواء أكانت هذه القصة حقيقية أم انها مختلقة مثل قصص وفكاهات أخرى في نفس المعنى، فانها تعبر في معناها عن موقف بعض المحيطين به من يعتقد انه يقبض بيديه وفكره وطموحاته على الحق المطلق، فيطالب الآخرين ـ وفق القول الساخر المعروف ـ بالا يزعجوه بالحقائق والوقائع اذا لم يكن ممكنا ادخالها في اطار الفكر الذي يتسلح به.

وبعد هذه المقدمة التي لعلها طالت ولعلها مع ذلك كانت ضرورية كخريطة نعبر بها جبال ووديان الفكر الذي يتزايد وزنه في الجسم السياسي لاكبر واقوى دولة في العالم تمتد تأثيراتها بقوة في جميع الاتجاهات، أعود الى ما ذكره ممثل التيار السائد حاليا في أوساط الحكم في واشنطن ونقلت بعضه في مقال سابق، وأود اليوم ابداء بعض التعليقات الاضافية:

* ان ما ذكره عن أفغانستان يجسد ما دأب عليه المحافظون الجدد من محاولة تطويع الوقائع لأهدافهم بصرف النظر عن الحقيقة، فالكل يعرف من الذي قاد حملة تجنيد الشباب المسلم للقيام بعمليات مقاومة (مما يسمونه اليوم ارهابا) ضد الوجود العسكري السوفياتي في أفغانستان، فقد تولت الولايات المتحدة هذا الأمر، وأشرفت على مكاتب التطوع وسهلت الدخول عبر باكستان، وهي التي استجدت التمويل أو أقنعت به وهي التي استعانت بغيرها في التدريب*

وأنا اذكر كيف أن أحد أعضاء الكونجرس كان يضع في مكتبه» بازوكا» من التي زودت بها واشنطن من كانوا حينئذ يسمونهم المجاهدين، وصورة أخرى له مرتديا زيهم وواقفا بينهم. وقد صدر أخيرا كتاب أطلق علي حرب أفغانستان اسم هذا العضو. وكلنا يعرف انه بعد خروج السوفيت تخلت الولايات المتحدة عن هؤلاء «المجاهدين» (الذين خلطوا المقاومة الحقيقة بالارهاب، من دون اعتراض ممن كان يرعاهم ويشجعهم) فعادوا بفكرهم وسلاحهم وادمانهم للعنف والمخدرات الى بلادهم فكيف انتقلوا بنشاطهم الى دول الغرب؟، وكيف يستدل على ذلك بان المجتمعات العربية والاسلامية هي وحدها التي تفرخ الارهاب؟ هذا مثال على القدرة على قلب الحقائق وعلى المغالطة.

* المحاضر نفى أن تكون للولايات المتحدة أطماع في بترول العراق وقد يكون هذا صحيحا بمعنى أن الولايات المتحدة لديها مصادر أخرى للبترول كما انه لا احتمال لان يمتنع منتج البترول عن بيعه لأنه ـ وفقا للقول المأثور ـ لا يستطيع أن يشربه، كما ان الدول الغنية بالبترول تحتاج الى ايراد بيعه لتبني نفسها. ولكن هذا خارج عن الموضوع، فالحقيقة أن سيطرة أية دولة على منابع ومصادر البترول يعني اعطاءها قوة ونفوذا تستطيع بهما أن «تقنع» الدول الأخرى التي تحتاج الى البترول بأن تسير معها أو وراءها وان تتماشى مع سياساتها وهي حقيقة لا أظن انها تحتاج الى اثبات أو تقبل النفي.

وهناك أمر ملفت للنظر في حديث المحاضر «المحافظ الجديد»، فقد قال ان واشنطن لو كانت في حاجة الى البترول حقا لدبرت مؤامرة تسمح لها بغزو فنزويلا. ونحن نعرف انها حاولت من قبل تدبير ازاحة شافيز لانه لا يتفق مع سياساتها، ولكن هذا اقرار بان المحافظين الجدد لا يجدون حرجا في الافصاح عما كان يحتفظ به سرا من العمل ضد الأنظمة التي لا تحظى بالرضا كما حدث في شيلي وغيرها.

* من غرائب مواقف المحافظين الجدد أيضا انهم في تحركاتهم يريدون أن يحشدوا وراءهم اكبر عدد من الدول تشارك في مشروعاتهم ومغامراتهم الخارجية. ولكنهم في نفس الوقت يرفضون العمل الجماعي في اطار الأمم المتحدة التي عينوا مندوبا دائما لها، شخصيا ينفي أصلا وجود تلك المنظمة الا اذا كانت أداة للسياسة الأميركية، ولا يري مانعا من «تدمير عشرة طوابق من طوابق مبناها ذي الثمانية وثلاثين طابقا» علي حد تعبيره الحرفي. وهكذا نرى نظرية جديدة عن العمل الجماعي خارج النطاق الجماعي الشرعي تحت قيادة أميركية منفردة تدعي لنفسها الشرعية مهما كان رأي بقية العالم كما عبر عنه كوفي انان نفسه بالنسبة لغزو العراق.

* ثم نأتي للحديث عن الديمقراطية عن طريق الغزو العسكري أو التسلل الداخلي. وقد رأينا كيف ان هذا الأسلوب لم ينجح في أفغانستان أو في العراق رغم الدعايات التي تركز على القشور وبعض المظاهر من دون أن تأخذ في الاعتبار الصورة الحقيقية في عمقها وكليتها فلا أحد يستطيع أن يدعي بان ما نراه كل يوم في العراق من انقسامات وعنف ومعتقلات وانعدام للأمن والعجز حتى الآن عن تشكيل حكومة دليل على الديمقراطية أو مظهر من مظاهرها، ولا يجدي هنا الادعاء بان العنف آت من الخارج أو من فلول النظام المقيت البائد، فذلك قد يكون حقيقيا جزئيا، ولكن الحقيقة الأكبر هي أن الاحتلال يؤدي الى مقاومة حقيقية قد تخطئ الوسيلة أحيانا ولكنها تبقي نابعة من شعور وطني، كما أن الفراغ الاداري والأمني الذي خلفته قرارات بريمر الخاطئة كانت له نتائج سلبية ما زالت آثارها محسوسة واعتقد انها ستلقي بظلالها على الموقف الى زمن طويل.

ومن الغريب أيضا أن الدوائر المحافظة في الولايات المتحدة تعتبر أن ما يجري في العراق وأفغانستان تحت الاحتلال هو الديمقراطية ذاتها، أما ما يجري في دول أخرى مثل مصر التي تتقدم بقيادة الرئيس مبارك نحو استكمال بناء الديمقراطية بخطوات محسوبة تنطلق من المبادئ العامة المعروفة، فهو لا يستحق في رأي المحافظين الجدد الاشادة بل يتعرض لنقد غير مبرر ويكاد يتحول أحيانا الى حملات تحريضية وظالمة.

* وآخر تقاليع المحافظين الجدد هو ابداء الاستعداد للتعامل الايجابي مع وصول تيارات الى السلطة كانوا يعتبرونها ـ وبعضها بالفعل كذلك ـ متطرفة ولكن يبدو أن خلطهم في بلادهم بين الدين والسياسة بطريقة تشبه نوعا من الخومينية، قد جعل الأمور تلتبس عليهم، فهم يتهمون دينا كله بأنه يحرض على العنف ويخلق جوا ثقافيا يقود الى الارهاب، وهو اتهام ظالم لان الاسلام يحض على الاعتدال والتعامل مع الآخرين بالحسنى ويدعو الى السلام، بينما يمدون أيديهم سرا وأحيانا علنا لتيارات داخل هذا الدين السمح تمثل التشدد والتعصب فيما يذكر بعهود مضت حينما كان البعض في الغرب يحاول استخدام الدين ضد التيار الوطني والقومي، كل هذه الأمور تدعو الى القلق، ولكن ما قد يخفف من هذا القلق ما أكده المحاضر من أن الرئيس بوش لا ينتمي شخصيا الى المحافظين الجدد، ولكنه تأثر بهم في بعض السياسات ويعني هذا أن سيطرة أفكارهم ليست سيطرة كاملة وليست بالضرورة دائمة، وان هناك قوى أخرى على الساحة الأميركية يمكن أن تعيد الأمور الى اتجاه اكثر اعتدالا وتعقلا قد يحقق ما لم ولن تستطيع محطات الاذاعة والتلفزيون المخصصة للدعاية أن تحققه، وهو المصالحة بين الولايات المتحدة وشعوب المنطقة ـ بل شعوب العالم ـ حول أهداف مشتركة تحقق مصلحة الجميع من دون محاولات للتسلط أو الاملاء وبعيدا عن التعصب الذي يعمي عن الحقائق فيقود الى طريق الأخطاء والأخطار الذي كان يسمى في «حواديت زمان» طريق الندامة.