عودة المدنيين

TT

في الاشهر الاولى من حكم الرئيس اللبناني اميل لحود، كان يقول انه اعاد تنظيم الجيش خلال عامين ولن يحتاج الى اكثر من ذلك لإعادة تنظيم البلد. وكنت اقول للرئيس ان الحياة العسكرية شيء والحياة المدنية شيء مختلف تماما. الاولى، نفذ ثم اعترض، والثانية نقاش وجدل. وكنت اخشى، في صدق ووجل، ان يحيط الرئيس لحود نفسه فقط بالعسكريين، لأن لبنان مجتمع معقد وصعب وشغوف بالحرية والنقاش.

ولذلك احاط فؤاد شهاب نفسه بانضباطية العسكريين وبالانفتاح المدني والسعة المدنية والتسامح المدني. وكان له في ذلك ارقى الناس فكرا وسعة صدر: من تقي الدين الصلح الى فؤاد بطرس الى الياس سركيس الى جورج نقاش الى باسم الجسر الى شارل حلو، الى الى الى.

احاط العسكريون بإميل لحود في القصر الجمهوري وفي الحياة الخاصة. ونادرا ما كان يصغي لغير رفاقه من الضباط السابقين او الحاليين. وقد كان اللواء جميل السيد رجلا معروفا بالذكاء والثقافة العامة والادارة، لكن هاجسه الاول كان امنيا. ولم يكن الضباط الآخرون في سمعة اللواء السيد، وكانوا فوق ذلك رجال امن لا رجال سياسة ولا رجال افق ولا رجال تخطيط.

انتهى عصر الاجهزة الامنية في لبنان في اول اجتماع وزاري بعد استشهاد الرئيس رفيق الحريري. ولم يبق احد من الرجال الذين احاط الرئيس لحود نفسه بهم. وفي المقابل ليس له سند سياسي مدني محسوب له. وقد ظل الرئيس الحريري في حياته يحاول عبثا نقل ضباط الامن من مكان الى مكان. لقد هزموه حيا وهزمهم ميتا. وفقد الرئيس لحود في غياب الحريري خصما لا يعوض. فقد كان اللبنانيون يفيقون كل يوم على اخبار الخلاف بين الرجلين.

وكانت الاندية والصالونات السياسية تتندر بالطريقة التي يعامل بها الضباط رئيس الوزراء. على ان العميد رستم غزالة نفى «بعد دقائق من عبوره الحدود اللبنانية»، كما نقل الينا هذا المشهد الدرامي مراسل الجريدة السيد ابراهيم عوض، ان علاقته كانت سيئة بالرئيس الحريري، اطلاقا.

في ابعاد مجموعة الضباط الاساسيين واقالة المدعي العام التمييزي، يكون قد تم في لبنان مشروع حكم عسكري غير معلن. لكن كان من الواضح انه حتى مديرية غرفة رئاسة الجمهورية اعطيت لضباط. والاكثرية الساحقة من دوائر القصر الجمهوري كانت في ايدي عسكريين. واذ انفض الضباط من حول الرئيس لحود، تتأكد مرة اخرى استحالة اقامة حكم عسكري في بلد مثل لبنان.

لقد حاول العماد ميشال عون ان يحكم لبنان بمجلس وزراء عسكري في عز الحرب فاخفق. وحاول الرئيس سليمان فرنجية الاستعانة بحكومة عسكرية في بداية الحرب فانهار البلد. وحتى ذلك المستنير والمنصف والمستقل فؤاد شهاب حاول ان يحكم نصف عسكري نصف مدني فكانت تجربته نصف نجاح نصف فشل.

ظنت سورية، التي لا تثق في المدنيين، انها تستطيع ان تقيم في لبنان تدريجيا نظاما شبيها بنظامها. ووضعت كل وزنها وقوتها في سبيل ذلك. وعندما اعلن الرئيس اللبناني اميل لحود الصيف الماضي ان ولايته الاولى اخفقت ويريد التمديد لتحقيق ما وعد به قبل ست سنوات، بدا ان الفرصة تأخرت قليلا. فقد جيء له بحكومة لا تنقذ احدا ولا تفيد احدا حتى نفسها. وفي عهدتها تعرض ضباطه وأركانه الى اعنف حملة سياسية في تاريخ التدخل العسكري في لبنان. وربما تأخر الوقت قليلا الآن للبحث عن رجال مثل تقي الدين الصلح وفواد بطرس للأسف.

لم يحاول العماد لحود قراءة التاريخ ولا استقراء المستقبل. ثمة ما هو اعلى بكثير من الامر العسكري. انه شغف الناس بالحريات والكرامة. ومشكلة الخوف او الرعب انه ليس عاملا دائما ولا قابلا للاستمرار ولا يمكن البناء عليه. لذلك غيرت الناس وجه لبنان في ساعات. وطفق الاطفال الى الساحات. وسبقت النسوة كل الرجال. والانقلاب هذه المرة لم يكن عسكريا. لقد انقلب المدنيون وليس معهم سوى اعلامهم.