السعودية وأمريكا على القاعدة الأصلية: مصالح مشتركة.. وأنظمة متنوعة

TT

متى غرس الملك عبد العزيز النواة الاولى لـ(الدستور) الذي حكم السعودية، ووجه مصائرها؟ منذ ثمانين عاما، وبالتحديد عام 1926م.. وماذا كانت طبيعة تلك النواة؟ هي (طبيعة اسلامية). فقد نصت التعليمات الاساسية (وهي نواة الدستور) على ان المملكة «دولة ملكية شورية اسلامية مستقلة في داخليتها وخارجيتها. وادارة المملكة بيد الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن الفيصل وهو مقيد بأحكام الشرع.. وجميع أحكام المملكة تكون منطبقة على كتاب الله وسنة رسوله وما كان عليه الصحابة والسلف الصالح».

ومتى التقى الملك عبد العزيز بالرئيس الأمريكي الاسبق: فرانكلين روزفلت؟.. عام 1945.

كم المسافة الزمنية بين التاريخين (1926 ـ 1945)؟.. عشرون عاما.. والحقيقة المستنبطة من هذه المقارنات والمفارقات هي: ان الرئيس الامريكي روزفلت وهو يلتقي بالملك عبد العزيز، كان يعرف (طبيعة النظام) الذي يلتقي بمؤسسه وقائده. يعرف ان طبيعة النظام (اسلامية).. وفي الوقت نفسه، كان الملك عبد العزيز يعرف طبيعة النظام الامريكي الذي يمثله روزفلت. يعرف انه نظام ديمقراطي رئاسي علماني.. ومع معرفة الزعيمين بالفروق بين النظامين: أقاما علاقات سياسية واقتصادية وحضارية متينة بين البلدين.. ومن اقوى البراهين على متانتها: انها تنامت واستمرت وتوطدت عبر ستين عاما (1945 ـ 2005). وليس واقعيا من يقول: انه لم تكن هناك وجهات نظر مختلفة بين البلدين في هذه القضية او تلك، بيد ان النسيج الاساسي العام للعلاقات ظل قويا.. حتى وقع العمل الارهابي الضخم الصاعق في الولايات المتحدة، في الحادي عشر من سبتمبر 2001. فمنذ ذلك التاريخ الكريه وبعده: تعرضت العلاقات لما تعرضت له من التوتر والتردي والسوء حتى كاد (الغلاة) ـ من هناك وهناك ـ: ان يفلحوا في فصم العلاقة المتينة الطويلة ـ على ما بينهم من تناقض في البواعث والاهداف ـ: فالغلاة الذين اقترفوا جريمة الارهاب في امريكا، كان من مقاصدهم (فصم) العلاقة بين البلدين.. والغلاة في أمريكا سارعوا الى توظيف العمل الارهابي في (فصم) العلاقة ايضا. وبدا الامر وكأنه (تبادل خدمات) بين الغلاة في الجانبين لهدم العلاقة بين الدولتين.

لكن ثبت ان (منطق المصالح) اقوى من عبث العابثين.. وهذه بشرى موضوعية: بشرى ان يتغلب العقل على الهوى، وان يغلب تقدير المصلحة: سفه المغامرات وخسائرها.

فبعد سنوات عصيبة مشحونة بشتى الاحتمالات غير الحسنة: تمكن قادة البلدين ـ بصبر وتبصر وحكمة ـ من اعادة العلاقات الى قاعدتها الصحيحة، قاعدة (مصالح مشتركة.. تتقاسمها وتتبادلها انظمة متنوعة).

ولقد تبدى هذا التصحيح والتطبيع.. والتأسيس من جديد ـ على الرصيد الثري السابق ـ تبدى ذلك في البيان السعودي الأمريكي المشترك الذي كان حصيلة لقاءات الأمير عبد الله بن عبد العزيز مع القيادة الامريكية.

ان هذا البيان ينبغي ان يأخذ حظه الموفور من الدراسة والتحليل والتنظير.. لماذا؟ لانه جاء بعد فترة عصيبة جدا.. ولانه انتظم ـ بوضوح ـ: ما يؤسس لعهد جديد في العلاقة بين البلدين: قائم على الثقة والمصلحة.. وعلى (الاحترام الحضاري) للفروق بين البلدين، سواء كانت فروقا ثقافية، او سياسية، او اجتماعية.

نقرأ في البيان ما موجزه:

1 ـ بالنسبة لاحترام الولايات المتحدة لطبيعة النظام السعودي: «ان الولايات المتحدة تحترم المملكة العربية السعودية كمنبع للاسلام الذي هو من اعظم الاديان في العالم، وكونها مهدا للعقيدة الاسلامية، وراعية للحرمين الشريفين في مكة المكرمة والمدينة المنورة.. وادراكا منها ان في مقدور الامم ان تنشئ المؤسسات التي تعكس تاريخها وثقافتها وتقاليد مجتمعها، فان الولايات المتحدة لا تسعى الى فرض نمطها في الحكم على حكومة وشعب المملكة العربية السعودية».

وهذا تسجيل او توثيق سياسي لحقيقة دينية جغرافية تاريخية حضارية: حقيقة ان الاسلام قد تفجرت ينابيعه في ارض الحرمين. فالقرآن تنزل في مكة والمدينة، وهو منسوب ـ مكانيا ـ الى المدينتين (القرآن المكي والقرآن المدني).. والرسول ابتعث في مكة.. ومسلمو العالم ـ حيث كانوا ـ مرتبطون بالكعبة في صلاتهم.. وهم يؤدون حجهم وعمرتهم في مكة.. والمدينة المنورة هي (بيئة السنة النبوية). ففيها تحدث النبي. وفيها فعل. وفيها قرر فكانت السنة.. وهذه المدينة نفسها شهدت قيام الدولة الاسلامية الاولى.. وتنبثق من هذه الحقيقة: حقيقة اخرى وهي: ان مهابط الوحي، ومؤدى الحج، ودار السنة، وموئل المؤسسين المسلمين الاوائل.. هذه البيئة (الخاصة): لا يصلح لها الا نظام اسلامي المصدر والمنهج والمناخ: يتكيف روحيا وفكريا وسياسيا مع الرسالة والتاريخ والموقع والمحيط.. وهذا ما ادركه ـ بعمق ـ الملك عبد العزيز.. فقد كان التحدي الاعظم امامه: تأسيس (دولة عصرية). ولكن على (اساس اسلامي). ولقد عبر عن هذه المهمة المركبة فقال: «انني ارى ان من واجبي ترقية جزيرة العرب، والاخذ بالاسباب التي تجعلها في مصاف البلاد الناهضة، مع الاعتصام بحبل الدين الاسلامي الحنيف».

2 ـ بالنسبة لاحترام السعودية لطبيعة النظام الامريكي: نقرأ في البيان: «ان المملكة العربية السعودية بدورها تدرك مبادئ الحرية التي قامت على اساسها الولايات المتحدة بما فيها الحريات المهمة التي وردت في المادة الاولى من الدستور الامريكي.. وتقدر الدور التاريخي الذي لعبته الولايات المتحدة لوضع حد للاستعمار والامبريالية، ودعوتها لحق الشعوب في تقرير مصيرها».. وهذا صحيح.. فإنا نقرأ في وثيقة الاستقلال الامريكية: «نحن ممثلي الولايات المتحدة في مؤتمرنا العام المجتمع هنا: نشهد القاضي الاعلى للعالم على صواب مقاصدنا. ونعلن باسم شعب هذه المستعمرات الطيب، وبسلطانه: ان هذه المستعمرات المتحدة في حقيقتها ينبغي ان تكون ولايات حرة مستقلة».. والحق ان الامة الامريكية تميزت بمزايا عديدة جاذبة للانتباه: مزية التصميم الجماعي على التحرر والاستقلال.. ومزية (التبكير والسبق)، ففي التاريخ السياسي الحديث، كان الشعب الامريكي (باكورة) الكفاح ضد الطغيان.. ومزية وجود قادة يركضون لتحقيق تطلعات أمتهم.. ومزية تضمين ذلك كله في دستور موقر لا يُسمح بمخالفته: اذ تنص المادة 6 منه على انه: «سيكون هذا الدستور وقوانين الولايات المتحدة التي ستصدر فيما بعد طبقا له وجميع المعاهدات المبرمة او التي ستبرم تحت سلطة الولايات المتحدة: القانون الاعلى للبلاد، وسيلتزم بذلك القضاة في كل ولاية، ولا يلتفت لأي شيء يكون مخالفا لهذا: في دستور او قانون أي ولاية».. لماذا هذا الاحترام الكبير للدستور الامريكي؟.. لانه تعبير عن رغبة الشعب الامريكي وخياره الذي ينبغي ان يحترم.. وهذا من حقه. ولكن ليس من المساواة الانسانية، ولا من حقوق الانسان التي وهبها الخالق لجميع الناس: ان يقال: ان رغبة الشعب الامريكي وحده هي التي يجب ان تقدر وتحترم. فلكل شعب رغبته وخياره.. مثلا: الشعب السعودي شعب مسلم متمسك بالاسلام. وهذا (خيار ايماني) قبل ان يكون خيارا سياسيا. ومن هنا جاء (الدستور السعودي) معبرا عن رغبة هذا الشعب وخياره. فمن مواد هذا الدستور: «يقوم الحكم في المملكة العربية السعودية على اساس العدل والشورى والمساواة وفق الشريعة الاسلامية».. وهذا ليس إملاء فوقيا من القيادة: لا من حيث المصدر، «تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم». ولا من حيث الالزام: «اتبعوا ما أُنزل إليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أولياء».. نعم: ليس إملاء فوقيا من القيادة السياسية، فهي مثل الشعب: خاضعة لكلمة الله، مطيعة له. وانما كان الدستور السعودي ترجمة لايمان شعب مؤمن: ايمانه مشروط بتحكيم الاسلام فيه: «فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم».

تبين آنفا: ان في السعودية والولايات المتحدة نظامين سياسيين واجتماعيين مختلفين ـ وهذا قانون مطرد في حياة الناس ـ. ولكن تبين ـ كذلك ـ ان هناك (مصالح مشتركة).. والاستراتيجية العملية النفعية للجمع بين مصالح مشتركة، وانظمة متنوعة: تمثل في تجريد العلاقات من (الاوهام الايديولوجية)، وتركيزها على (المصالح) الحقيقية. فـ(التطابق) بين الانظمة لم يحدث في التاريخ، ولن يحدث في الحاضر والمستقبل.. والثانية: ان التطابق لا داعي له.. والثالثة: انه لو ربط احد بين التطابق الفلسفي والعلاقة المصلحية، لما صحت علاقة بين الدول.. والرابعة ان الاصرار على التطابق: كفران بـ(التعددية)، فليست التعددية الحقة: احزابا داخل دولة. فهذا تصغير لمفهومها. وانما التعددية الارسخ والاوسع هي: تعدد الانظمة الاجتماعية والسياسية والثقافية على مستوى الكوكب.. فلتكن المصلحة باعث العلاقة ومضمونها ومقصدها: «ان المفاوضات الدولية في التجارة تجعلك على اتصال بكثير من الثقافات والمعتقدات والقيم. فاقترب من كل منها باحترام لتعقد صفقة طيبة».. هذا ما قاله جيوالد سالاكيوز في كتابه (الصفقات التجارية).