بعد مخاض الحكومة.. العراق إلى أين؟

TT

رغم استغراق عملية الولادة 87 يوما، لم يتأكد العراق بعد من شرعية أبوته للمجلس الوزاري الجديد، الذي ضيع الدكتور ابراهيم الجعفري ربع فترة الحكم في تشكيله!

استقبلت، كغيري من المراقبين البريطانيين، الخبر بمزيج من الارتياح، والقلق، والحزن، متزأمنا مع الجدل حول اخفاء رئيس الوزراء توني بلير تفاصيل الاستشارة القانونية للمحامي العام بشأن شرعية الحرب التي خلصت العراقيين من حزب البعث المسؤول عن ثلاثة حروب، ومقابر جماعية وابادة عرقية، خاصة ان مصدر المعلومات الاستخباراتية المضللة حول اسلحة الدمار الشامل، وهي مبرر أميركا وبريطانيا للحرب، أصبح نائبا لرئيس الوزراء العراقي.

تعكس الوزارة العراقية من 32 حقيبة التركيبة الأثنوغرافية والثيولوجية، فـ %35 للشيعة، و25% أكراد وحوالي 19% للسنة العرب ـ رغم مقاطعتهم للانتخابات ـ وسبع وزيرات، وهي قفزة هائلة بالنسبة للعالم الثالث ـ خمس وزيرات فقط في مجلس الوزراء الحالي في بريطانيا ـ نتمنى ان تحتذي بها بقية بلدان المنطقة، فتعزيز الدور الايجابي للنساء من أهم خطوط الدفاع ضد التطرف.

لكن غياب التركمان، والآشوريين ومنح منصب واحد للمسيحيين يدعو للقلق، طالما أن الدكتور الجعفري قرر السير في طريق التمثيل الأثنوجرافي.

التأخر الشديد، والمزايدات والمقايضات وراء الكواليس، لتشكيل الوزارة، أمر مزعج، خاصة الاشارات السلبية الناجمة عن استبعاد الدكتور اياد علاوي، عطفا على ان مجموعته تملك 40 مقعدا برلمانيا، وعطفا على ما بذلته حكومته الانتقالية من جهود مضنية وتضحيات، آخرها اغتيال النائبة لميعة عابد خضوري، وتعرض علاوي نفسه لمحاولات اغتيال. فالاشارات الايجابية عن استقرار الوضع واستمرارية العمل الحكومي، أمر بالغ الأهمية لطمأنة المستثمر والزائر والخبراء الأجانب في الظروف التي يمر بها العراق حاليا.

وكنا، كمراقبين، توقعنا منح دكتور علاوي حقيبة الأمن في شكل وزارة الداخلية، كإشارة لاستمرار سياسة عدم التساهل مع الارهابيين، سواء من فلول البعث ومخربيه، او من الارهابيين الأجانب كمجموعة الزرقاوي وامثاله، او مع عصابات الإجرام من السجناء، في قضايا جرمية، والذين افرج صدام عن الآلاف منهم قبل الحرب مباشرة، متوقعا بالضبط ما يحدث الآن من نشاطهم الاجرامي للمساهمة في زعزعة الاستقرار وإرهاب المدنيين.

وما يحسب من انجازات علاوي وحكومته، المساعي الكبيرة التي بذلها لاحتواء عمليات العنف والتشدد مع الخارجين على القانون، لكن استبعاده اعطى، في تقديرنا، اشارات خاطئة لهذه العصابات.

التأخر في تشكيل الحكومة ايضا خلق فراغا سياسيا في العراق، وخيب آمال ملايين العراقيين الذين هزموا الإرهاب سياسيا وصفعوا البعث معنويا واخلاقيا ودستوريا، بتحديهم الخوف والتهديدات والتوجه بحماس لصناديق الاقتراع، ليجدوا انفسهم يعيشون فراغا سياسيا بسبب خلافات وتعطيلات ومزايدات اجلت تشكيل الحكومة لثلاثة اشهر. التعطيل ايضا جاء بمثابة «حقنة فيتامينات» سيكولوجية للارهابيين لزيادة نشاطهم، الذي تنامى الى ما كان عليه منذ عام، حسب الارقام التي اعلنها يوم الثلاثاء الجنرال ريتشارد مايرز، رئيس هيئة الأركان الأميركية، بعدما كانت الهجمات قد تناقصت الى اقل معدل لها عقب الانتخابات وهزيمة الشعب العراقي للارهابيين في مراكز الاقتراع.

وربما تكون البطانة الفضية الوحيدة لغمامة التطور السلبي، ان الدكتور علاوي قد يصبح زعيم المعارضة في البرلمان العراقي، والتجارب الديمقراطية على مدى التاريخ اثبتت ان قوة المعارضة في البرلمان ووعيها دائما ما تكون قوة للنظام السياسي للدولة وتشكل صمام امان للحكومة، وان كنا نفضل وجود الدكتور علاوي، كشيعي علماني اختبر النظام الديموقراطي التعددي البريطاني عندما عاش هنا في المنفى، في الحكومة في هذه المرحلة الصعبة لصياغة دستور جديد للعراق.

أما ما تسرب من معلومات حول الخلافات التي ادت لفقدان حكومة الدكتور جعفري لربع مدة الحكم قبل تشكيلها، فمدعاة للقلق الى جانب الخلاف حول افضل السبل لضم ممثلي العرب السنة الذين قاطعوا الانتخابات* مصادر مجموعة الجعفري، حسب معلوماتي، تتهم مجموعة الوفاق «بالطمع » باشتراط اربع وزارات كبيرة بما فيها الأمن والبوليس. مصادر مجموعة علاوي عبرت عن «شعورها بالإحباط الشديد لأسابيع طويلة «من اتجاهات الأحزاب والمجموعات الشيعية التي يمثلها دكتور جعفري، الى «أسلمة العراق» او تحويل النظام السياسي العلماني الأساس الى نظام ثيوقراطي يشبه نظام الجمهورية الاسلامية، وهو امر شديد الخطورة ويهدد مستقبل العراق وأمنه، بل وربما يهدد بقاء الأمة العراقية متماسكة كدولة قومية واحدة، خاصة ان زعماء الأكراد اكدوا ان رغبة الشعب الكردي هي الرفض التام لفرض الحجاب على الكرديات وفرض طريقة معيشة واسلوب حياة وتشريعات يراها الأكراد مستوردة دخيلة، وغريبة عن مجتمعهم. وفي الوقت نفسه، عبرت قطاعات من نساء عراقيات، من طوائف متعددة، ومن مختلف المناطق العربية الجغرافية عن قلقهن البالغ، وتعرض كثير منهن للاعتداءات اللفظية والجسدية، من جانب جماعات اسلاموية الاتجاهات، تعاظم نفوذها وتريد فرض نظرتها السلفية على نساء، جريمتهن في نظر المتشددين، هي استمرارهن في طريقة الملبس والمعيشة والنشاط الاجتماعي والتعليمي والتثقيفي التي شببن عليها وتعودن عليها.

واذا أصرت المجموعات الشيعية على المضي في طريق «الجمهورية الاسلامية» وفرض هذا الأسلوب، فستكون كارثة، حيث تستبدل ايدولوجية البعث القومجية، بأيدولوجية شمولية اخرى هي الاسلاموية السلفية المتشددة، والتاريخ مليء بأمثلة لا تنتهي من جر الأيدولوجيات الشمولية، سواء الاشتراكية القومية النازية الهتلرية، او الفاشية الموسيلينة، او الشيوعية الستالينية، او القومية السلافية، او البعثية القومجية العربية، او الجمهورية الاسلامية، او السلفية الاسلاموية البنلادنية ـ الظواهرية ـ الأمم الى حروب، سواء بجيوش نظامية او عن طريق عصابات ارهابية تتجاوز الحدود الجغرافية الاقليمية.

والأخطر هو ما ينجم عن الايدولوجيات الشمولية من التطهير العرقي وفرض الهوية بالإكراه على الطوائف الاثنية او الدينية الأخرى، مما يهدد بحرب اهلية طائفية في العراق الذي لم يشهد ابدا صراعا مباشرا بين طوائفه واعراقه.

ويتحمل الأميركيون القسم الأكبر من التأخير والتعطيل وخطورة الحرب الأهلية، اولا بالقرار الأحمق بحل الجيش العراقي مما ادى لتردي الأمن، وثانيا بتقديم نظام التمثيل النسبي بالقوائم، كنظام اقتراع، وان تحمل العراقيون انفسهم اللوم الأكبر بقبولهم هذا النظام الناقص الديمقراطية، بدلا من نظام الدوائر الجغرافية الذي ينتخب فيه المواطنون النائب حسب برنامج انتخابي وفقا لمصالحهم، بدلا من نظام قوائم لا مفر من تعميقه الانقسامات الطائفية.

وحتى الأمل بإصلاح هذا الخطأ التاريخي في صياغة الدستور، اصبح الآن خافتا بعد تعطل ثلاثة اشهر في تشكيل الحكومة، والتي من مهامها صياغة دستور في غضون اسابيع قليلة قبل الاستفتاء، وهو وقت لا يكفي لمثل هذا العمل الضخم، والخطورة تكمن في التسرع بصياغة دستور «سلق بيض» مليء بأخطاء وتجاوزات قد تصبح مصدر نزاع لا ينتهي، خاصة اذا ما عزلت المجموعات العلمانية والليبرالية عن المساهمة في صياغته، والتي ارجو ان يتولاها المحامون وليس الساسة.