المحرضون والضحايا

TT

صراع الأجيال مفهوم. والتهمة ثابتة وجاهزة. وكل جيل يتحين الفرصة لالقائها مثل كرة لهب على الجيل الذي يليه. ولكن ماذا عن التهم التي يكيلها أفراد ذات الجيل لبعضهم.

براء محمد فخري وزميله ياسر قابس، طالبان في المرحلة الثانوية في ذات الفصل الدراسي. تفصل بينهما على الأرض مسافة ثلاثة أمتار. ويفصل بينهما في التفكير بقدر ما بين اليسار واليمين.

ولنبدأ ببراء.. هو شاب في الثامنة عشرة يعزف الموسيقى على آلة القيثارة. ويقرأ لـ«تشارلز ديكنز» و«فيكتور هيجو» و«المنفلوطي». يتمنى أن تكون هناك مساحة في التعليم المدرسي تهتم بالعلوم والفنون الإنسانية مثل الفلسفة والموسيقى والفن التشكيلي وتاريخ العالم. يريد أن يدرس عن التاريخ في أوروبا وأميركا، وأن يعرف أكثر عن «هتلر».

ويصر على اختيار شريكة حياته بنفسه في المستقبل. وينتقد غياب الانفتاح الذي يتيح له الاختيار. ويعتقد أن المرأة مظلومة اجتماعياً. ويجب أن تتاح لها فرصة اكبر في التعريف عن نفسها وقدراتها، التي لا يشك في أنها من الممكن أن توصلها لمراتب الوزراء.

براء في حديثه مرح ويأس في ذات الوقت. هو يحب الحياة، ولكنه غير قادر على ممارستها بحرية. يرغب في الخروج في نهاية الأسبوع لمشاهدة فيلم في السينما، أو عرض مسرحي في أحد المسارح. ويرغب في العزف ليلاً على قيثارته وحيداً على الشاطئ من دون أن يضايقه أحد، ويعاقبه. ومن دون أن يذهب في الصباح إلى صفه الدراسي ليجد في درج طاولته شريط كاسيت يحذره من ذلك. وختم حديثه بعبارة واحدة تلخص مبتغاه، وقال «ليعيش الناس بطريقتهم وليتركوني أعيش بطريقتي. أنا أحترم رغباتهم، فلماذا لا يحترمون رغباتي؟».

ياسر شخصية متدينة، هو أيضاً لطيف بدوره. ويهوى الرسم ويملأ به أوقات فراغه. رأيه في التعليم يختلف عن رأي براء. ويرى أنه لا بد من زيادة الجرعات الدينية. ولا يعتقد بجدوى تدريس الموسيقى لأنها «محرمة» بحسب قوله. ولكم مرة قام بتوزيع الأشرطة الدعوية لزملائه في المدرسة وخارجها بهدف «هدايتهم».

يعتقد ياسر أن المرأة خلقت لتكون ربة منزل فقط، ولكن لا بأس من عملها في مجالات مقننة ومحددة جداً. إلا أنه في ذات الوقت لا يرفض الاعتراف بإمكانياتها. في بداية الحوار رفض ياسر فكرة الصداقة مع من يعتقد أنه يرتكب المخالفات مثل سماع الأغاني. إلا انه بعد اطراقة وتفكير حول ما إذا كان ذات الشخص لطيفاً معه ولم يسئ إليه يوماً فلماذا لا يجرب الجلوس معه؟

ليست الإشكالية في اختلاف براء عن ياسر. ولكن الاشكالية في وسط حتى الآن لم يستطع إيجاد صيغة للتعايش بسلام للأفكار المختلفة. نبرة النقد الاجتماعية العالية من الطرفين لبعضهما تؤخر التواصل رغم وجود الاستعداد لذلك لدى الجهتين.

وتحريض الكبار للصغار يجب أن يتوقف. وتصفية الحسابات عبر الأجيال استهتار بمستقبل الوطن وعبث بحاضره. فقبل نحو عام عقدت إحدى الكليات الخاصة في جدة محاضرة عن الشباب والغزو الفكري. فقام شاب في السادسة عشرة وهاجم من اسماهم بـ«العلمانيين» وأنهم سبب تأخر المجتمع ورواج الرذيلة. فامتلأت الصالة بالتكبير. وقام أكاديمي سعودي بتقبيل رأس الشاب وسط تصفيق حار، وأهداه قلمه.

رغم أن الشاب ابن السادسة عشرة لم يقل فكرة واضحة واحدة، وامتلأ كلامه بالتهم، إلا انه وجد الحفاوة والتقدير والقبل على الرأس. من قبلوه هؤلاء هم السبب في انه اليوم لا يحاول حتى الاقتراب من الجهة الأخرى. وهم السبب في وجود شبان لديهم رغبة التغيير بالتفجير. وهم السبب في النزاعات التي تنشأ حتى داخل العائلة الواحدة. فقط تخيلوا منظر براء يعزف على قيثارة وبجانبه ياسر يمارس هوايته في الرسم، من دون أن يخاف براء من القادمين من الخلف، ومن دون أن يشك ياسر أن جلوسه بقرب الأوتار يضعف من نقائه. ان كان من كلمة أخيرة فهي، اتركوا للجيل الجديد إيجاد صورة للتعايش بلا أحقاد.