الملك عبد العزيز .. ذكرى شخصية

TT

كاد نبض الحياة أن يتوقف في جسدي ومعاليه يحدثني عن المهمة الموكولة إليّ.. كنتُ قد فرغتُ لتوي من الترجمة بين معالي الشيخ يوسف ياسين، أحد مستشاري الملك عبد العزيز، القريب منه، ورئيس الشعبة السياسية في الديوان الملكي، والسنيور روبرتو خوزيه أرتاخو وزير خارجية اسبانيا الذي يزور المملكة على رأس وفد رسمي كبير.

قال لي الشيخ يوسف ـ رحمه الله ـ حضر نفسك للسفر غداً الى الرياض. قلت خير ان شاء الله. قال، ووجهه يضيء بابتسامة السماحة والطيبة، للترجمة بين الملك عبد العزيز والوزير.. كاد سمعي ان ينكر ما وصل إليه. وحسبت معاليه يمازحني في أمر مثير. فقد كان على رفعة مناصبه ورفعة قدره ودوداً محباً لمرؤوسيه. وعندما لاحظ مظاهر القلق على وجهي قال: اتهاب لقاء الملك عبد العزيز وأنت على بعد ألف كيلو متر منه! قلت بل إني أكاد أرتعد من ذكر هذا اللقاء.

أخذ بيدي وسار خطوات وهو يردد بيتا لأبي القاسم الشابي (ومن يتهيب صعود الجبال / يعش أبد الدهر بين الحفر). وبدأ يشجعني ويشرح لي بعض ما يلاقيه المترجمون مع الملك عبد العزيز وما كان يسترجع من عبارات أثيرة اليه عندما يكتسب الحديث معه لهجة الحماس لديه.

قضيت ليلتي نائماً.. مستيقظاً، ونهباً لأحلام مرعبة. لم أكن قد رأيت الملك عبد العزيز. هو في خيالي اسطورة من الأساطير. وهو ليس جبلاً من جبال أبي القاسم الشابي. بل انه جبل من التاريخ، جبل من الهيبة والمهيبة، جبل من السماحة والعنفوان. صانع البطولات في الحرب والسلام. ذو الصوت المجلجل دفعاً للباطل وانتصاراً للحق.

موحد الجزيرة وسيد الفتوحات. كيف لي أن اواجه هذا العملاق وأنا ابن العشرينات لم يشتد عودي ولم استكمل صلابتي. كنت في الرابعة والعشرين من عمري لا أعرف من الترجمة مداخلها، ولا احسن مسالكها. فالترجمة علم ودراسة واحتراف، فكيف لي بها، اذن، وهي بين عمالقة كبار..! وماذا لو استعصا عليَّ فهم السؤال، أو تعذرت عليَّ ترجمته على نحو ما يجب ان تكون، أو جاء صوت الملك خفيضاً لا أتبين معه ملامح الكلام، أو طغى عليَّ خوف مفاجئ فارتباك. كيف اواجه الموقف واتصرف بما يرفع عني الحرج وأسباب الاضطراب...؟ ألف سؤال وسؤال تزاحمت في فكري المسكون بشتى المخاوف والهموم مما قد تحمله احداث الغد المنتظر.

وعند الظهيرة من يوم الاثنين 27 رجب عام 1371هـ الموافق 21 ابريل عام 1952 حملتنا طائرة (داكوتا) ذات سبعة وعشرين مقعداً. كانت أفضل ما لدى الملك عبد العزيز من الطائرات بل ربما كانت طائرته الملكية الخاصة. كانت مقاعد الطائرة صغيرة ضيقة. وما ازال اذكر كيف كان الوزير بقامته المديدة وبنيته المليئة المتعافية يصارع كرسي الطائرة كي يجلس فيه ويحتويه. استغرقت الرحلة بين جدة والرياض ثلاث ساعات ونصف الساعة. وصلنا مطار الرياض قبيل الغروب. ولأن الذاكرة لا تحتفظ، عادة، إلا بما يستوقفها من مظاهر العدم أو الشموخ في البناء فإني لا استذكر شيئاً عن مكان اسمه مطار الرياض. كان هناك، بالتأكيد، برج للمراقبة ومدرج للاقلاع والهبوط. اما غير ذلك فلم تر عيني منه شيئا. هبطت بنا الطائرة في ما يشبه الصحراء، بل هي الصحراء! واندفعت نحو الطائرة سيارات المراسم الملكية تنقلنا الى قصر المربع في ضيافة الملك عبد العزيز.

لم تكن في الرياض فنادق ولا قصور للضيافة، كان هناك جزء من قصر المربع معدا لاقامة الضيوف، رافقنا موظفو التشريفات اليه. وكان المشهد الذي اختزنته الذاكرة واحتفظت به عيناي تلك الغرف الصغيرة التي كانت معدة لاقامة الوزير ومرافقيه وقد تدلت من سقوفها مصابيح كهربائية شاحبة اللون يكاد نورها لا يضيء. وحتى يكون النقل أمينا لتفاصيل ليلة المبيت اتصلت بسعادة الاخ الدكتور فهد السماري، الامين العام لدارة الملك عبد العزيز كي اشاهد، بعد ثلاثة وخمسين عاما، الغرف التي قضينا ليلتنا فيها، انها نفس الغرف بحجرها وطينها وسقوفها المنخفضة ونوافذها الصغيرة المعلقة في اعلى الجدار مدخلة للنور والهواء، وتساءلت بعد عودتي من زيارة هذه الغرف، هل استطاع الوزير المقبل من قصور اسبانيا الفخمة ومرابعها الجميلة، مرورا بقصر القبة وحدائقه الغناء في القاهرة، حيث اجتمع بالملك فاروق قبل قدومه للرياض، هل استطاع الوزير ان يغمض عينيه وينام في حجرة كل ما فيها يوحي بالقلة والخشونة وتواضع الحال.

وفي صباح اليوم التالي المحدد لمقابلة الملك عبد العزيز جاءني سكرتير الوفد الاسباني ليخبرني بانفعال ظاهر ان معالي الوزير لم يجد في غرفته من الماء ما يكفيه لاستحمام الصباح!

وفي المساء من يوم وصولنا اقام الملك سعود بن عبد العزيز ـ رحمه الله ـ وكان وليا للعهد ـ حفل عشاء تكريما للضيف في قصره الجديد والذي قيل عنه انه اول منزل يبنى بالاسمنت المسلح في الرياض! وسمي بقصر الحمراء. أمطرت السماء والضيف والمضيف على مائدة الطعام فانقطع تيار الكهرباء وغرقت غرفة الطعام في ظلمة حالكة دامت عدة دقائق تنادى خلالها الخدم لاحضار (الاتاريك) وتواصل الحديث بين الضيف والمضيف واذكر بأن الوزير الاسباني قال لولي العهد انكم تفرحون بالمطر، أليس كذلك، قال نعم نفرح به ونرى فيه خيرا وبركة وقدومكم خير علينا يا معالي الوزير.

قصر الحمراء الذي كان، قبل خمسين عاما، درة المباني في الرياض تحول في ما بعد مقرا للامانة العامة لمجلس الوزراء وتحولت قاعة الطعام مكانا لانعقاد جلسات مجلس الوزراء وكم عادت بي الذكريات وأنا اشارك باجتماعات المجلس الى تلك الليلة والى هذا المكان.

كانت الرياض قبل خمسين عاما كمن يفتح عينيه على الجديد من الحياة، وكان ابرز شاهد على هذا الانفتاح سفلتة شارع المطار القديم وقد ارتفعت على جنباته الشمالية هياكل مباني الوزارات وهي تؤذن بحركة عمرانية مقبلة في عاصمة البلاد.

لن اذهب بعيدا في استرجاع الذكريات عن تلك (الرياض) المدينة الصغيرة التي كانت تنام بأهلها بعد صلاة العشاء وتحولت لحاضرة عربية كبيرة. هناك من هم أكثر التصاقا بتاريخ هذه المدينة كي يحدثونا حديث المعايشة وصدق المقال عن الرياض التي كانت حفنة من المنازل الطينية البسيطة يحيط بها سور يغلق ابوابه بعد الغروب والويل لمن تغيب عليه الشمس قبل ان يلحق بمنزله الصغير.

وللحديث صلة.

* الأمين العام السابق لمجلس التعاون لدول الخليج العربية