منظمة «إيباك» تتراجع أمام الـ «إف. بي. آي»

TT

بدأ في الأمم المتحدة هذا الاسبوع مؤتمر جمع ممثلي حوالي 180 دولة، للبحث في كيفية منع انتشار الأسلحة النووية عبر مراجعة معاهدة حظر انتشار هذه الاسلحة (وقعت عام 1970) التي يرى فيها المراقبون ثغرة خطيرة وهي انها تسمح للدول الموقعة عليها بحيازة التقنية النووية ثم الانسحاب من المعاهدة من دون عقاب، كما فعلت كوريا الشمالية عام 2003 واعلنت حيازتها لقنبلة نووية.

ومع بدء هذا المؤتمر الذي يستمر شهراً (ينعقد مرة كل خمس سنوات) تراوح موقف إيران بين التهديد باستئناف تخصيب اليورانيوم كما صرح كبير المفاوضين الايرانيين حسن روحاني، بعد فشل المحادثات مع الاتحاد الأوروبي في التوصل الى اتفاق بشأن مستقبل البرنامج النووي، وبين التراجع عن هذا التهديد بعد تصريح وزير الخارجية الألماني يوشكا فيشر، بأن الترويكا الأوروبية (المانيا وفرنسا وبريطانيا) قد توقف المفاوضات مع ايران اذا استمرت في المماطلة في اتخاذ الموقف الحاسم.

والتشويش في المواقف الايرانية المتضاربة انما التي يجمعها قاسم مشترك اساسي وهو حق إيران بتطوير برنامج نووي لاغراض سلمية من ضمنه تخصيب اليورانيوم بدرجات منخفضة لا تتجاوز 3.5%، وهي درجة كافية للطاقة في المفاعلات النووية المولدة للكهرباء مثلاً.

وفي حين يتوقع المراقبون ان تكون ايران وكوريا الشمالية من مشاغل الوفد الأميركي للمؤتمر، انما من دون ان تسيطران على المؤتمر بشكل كامل لانشغال المؤتمر باقناع روسيا والولايات المتحدة بخفض ترسانتيهما النووية وامور اخرى، في هذا الوقت بالذات تعرضت الجهود الاسرائيلية لاقناع واشنطن باتخاذ استراتيجية حاسمة ضد البرنامج النووي الايراني لضربه. وذلك بعد ان اضطرت مجموعة اللوبي اليهودي النافذة »ايباك» الى الاستغناء عن اثنين من كبار اعضائها وهما مدير سياسة المنظمة ستيف روزن، وأحد أهم محلليها للشأن الايراني كيث ويسمان، بسبب خضوع الاثنين ومنذ حوالي السنتين لتحقيق من قبل جهاز الـ »اف. بي. أي»، بتهمة نقلهما وثائق سرية إلى اسرائيل تتعلق بإيران، والاثنان كانا المكلفين على حث البيت الأبيض حول كل القضايا المتعلقة بإيران.

والضربة الثانية التي اصابت هذه الجهود الاسرائيلية الحثيثة التي تهدف الى اتخاذ واشنطن قراراً سريعاً ضد إيران، جاءت بسبب المعارضة المتزايدة لتعيين جون بولتون سفيراً للولايات المتحدة في الأمم المتحدة، اذ أجلت لجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ التصويت على التعيين بالموافقة أو الرفض حتى 12 الشهر الجاري. والمعروف ان بولتون، من المحافظين الجدد المتشددين وهو حليف نائب الرئيس ديك تشيني وكان مسؤولاً في وزارة الخارجية عن السيطرة على التسلح، وهو من كبار المؤيدين لموقف اسرائيل القائل ان ايران صارت قريبة جداً من تصنيع الاسلحة النووية، الأمر الذي يرفضه كبار المسؤولين في الادارة الأميركية. ويقال، انه بسبب تصرفات بولتون الفظة وما عاناه منه وزير الخارجية الأميركي السابق كولن باول. قررت وزيرة الخارجية الحالية كوندوليزا رايس التخلص منه بابعاده عن فريق وزارتها، فاوعزت إلى الرئيس الأميركي جورج دبليو بوش بتعيينه سفيراً في الأمم المتحدة.

على كل، فإن النشطاء الموالين لاسرائيل في واشنطن يشعرون بقلق من التغيير الجذري الذي اصاب «ايباك» بابعاد روزن وويسمان وبسبب المتاعب التي يتعرض لها بولتون والتي قد تؤدي الى عدم تبوئه المنصب، ويرون ان هذه التطورات ستصعب على اسرائيل اقناع البيت الأبيض، بأنه من الضرورة الاسراع واتخاذ موقف ضد ايران، فالتوقيت بنظرهم حاسم للتأثير على السياسة الاميركية تجاه ايران، وكان امراً مساعداً جداً لو بدأ مؤتمر منع انتشار الاسلحة النووية وبولتون هو السفير في الأمم المتحدة; ولو لم يتزامن هذا التأخير مع اهتزاز مصداقية اللوبي اليهودي القوي (ايباك) في واشنطن.

ويعتقد الكثيرون بأن جهود إيران ومحاولاتها الحثيثة لتخصيب اليورانيوم الى درجة تمكنها من تصنيع السلاح النووي، سوف تصل قريباً جداً الى نقطة اللا رجوع، غير ان المحللين النوويين في الادارة الاميركية يعتقدون ان ايران تحتاج الى سنوات وان الوقت لمنعها ليس مداهماً.

وكان رئيس الوزراء الاسرائيلي ارييل شارون بعد لقائه الرئيس جورج دبليو بوش في مزرعته في كروفورد ـ تكساس ابلغ الصحافيين الاسرائيليين ما كرره لاحقا في مقابلة اجرتها معه الاسبوع الماضي صحيفة «معاريف»، بأن الولايات المتحدة وحدها ا لقادرة على ترؤس تحالف دولي يضغط على ايران للتخلي عن برنامجها النووي. وردد مرافقون لشارون اثناء وجودهم في تكساس الشهر الماضي، بأن المسألة النووية الايرانية يجب ان تصل الى مجلس الأمن، لأنه الوحيد الذي يملك آلية دفع الدول لاتخاذ مثل هذا الاجراء. وحسب مصدر أميركي، فإن الحكومة الاسرائيلية واصدقاءها في واشنطن ما زالوا يأملون بأن يتولى جون بولتون قيادة الدور الأميركي في دفع مجلس الأمن لفرض عقوبات على ايران، لكن، وبسبب الشكوك حول اهلية بولتون لتولي منصب السفير في الأمم المتحدة، فإن الآمال الاسرائيلية يمكن ان تنهار خصوصاً اذا رفض مجلس الشيوخ التصويت لصالحه. ويرى المصدر ان بولتون كان دائماً متشدداً تجاه ايران، فإذا رُفض تعيينه فسوف يفسر بأنه رفض لسياسة معينة، ولهذا تصر اسرائيل واللوبي اليهودي في واشنطن على تعيين شخص مثله "يظهر للعالم بأن أميركا جدية وحاسمة!».

هذا القلق يوازيه حجما، القلق من الاجراءات الاخيرة التي اتخذت في «ايباك» والتي ادت الى طرد روزن وويسمان. وعندما بدأت تحقيقات جهاز الـ «اف. بي. أي» نفت »ايباك» بشدة ان يكون الاثنان قاما بنقل معلومات سرية حصلا عليها من الخبير في الشأن الايراني في وزارة الدفاع لاري فرانكلين الى احد الديبلوماسيين الاسرائيليين. وفي حين أوقف فرانكلين عن العمل، ظل روزن وويسمان مصرين بأنهما لم يرتكبا أي خطأ. وتعرضت بسبب ذلك «ايباك» إلى ضغوط من الحكومة الأميركية الى درجة التهديد بتحويلها الى منظمة اجنبية وتخضع للشروط التي تلزم تلك المنظمات. اي يمنع على اعضائها الدخول الى مبنى الكونغرس أو قبول أي تبرعات مالية. وفي شهر ديسمبر (كانون الأول) الماضي، اصدرت «ايباك» بيانا جاء فيه، ان لا هي ولا أيا من موظفيها خرق أي قانون. لكن، قبل عشرة ايام اصدرت «ايباك» بياناً آخر قالت فيه، انها طردت روزن وويسمان بعدما بلغها ما اقدما عليه من تصرفات «لا تتوقعها من موظفيها»، وصرح باتريك دورتون الذي وظفته «ايباك» للتعاطي مع وسائل الاعلام في ما يتعلق بتحقيقات الـ «اف. بي. اي»، انه لا يستطيع الرد على أي سؤال يدور حول ما اذا كانت المنظمة دعمت في السابق ما زعم بأن احداً من موظفيها لم يتصرف بطريقة غير قانونية. ودورتون الذي عمل سابقاً في ادارة الرئيس بيل كلينتون متخصص في العلاقات العامة لادارة الأزمات.

جاء توقيت طرد روزن وويسمان قبل ان تعقد المنظمة مؤتمرها السنوي في واشنطن ما بين 22 و 24 من الشهر الحالي والذي سيتحدث فيه ارييل شارون وكوندوليزا رايس وقادة الكونغرس الاميركي ويحضره الالاف من اعضائها الذين سيأتون من 50 ولاية.

ويقول احد العارفين بخفايا «ايباك»، ان فضيحة روزن وويسمان وتسريبهما ملفات سرية اميركية الى اسرائيل، بدأت تأكل من مصداقية المنظمة مثل مرض السرطان، وان ابعادهما يخفف قليلا من الوطأة، لكنه يثبت تورطهما. لكن، حتى مع ابعادهما، فإن تحقيق الـ «اف. بي. اي» في نشاطات المنظمة اثّر كثيراً على سمعتها وهي المعروفة باللوبي الاسرائيلي الاقوى في واشنطن. ومن جهة اخرى، يصعب على البعض، كما يقول العارفون، تصور «ايباك» من دون روزن، فهو الذي أوصل المنظمة الى قوتها وشكلها المعروفين حالياً، وفي السنوات الثلاث والعشرين التي امضاها في المنظمة، برز كاقوى مسوق لأي سياسة يريد كسب التعاطف معها، وكان له اصدقاء وحلفاء في اقوى المواقع في المؤسسة السياسية الاميركية بغض النظر عن حزبية الادارات، ديمقراطية أو جمهورية، ومن ابرز انجازاته دفعه الى انشاء مؤسسة يمولها المتبرعون لـ«ايباك»، وهي «مؤسسة واشنطن لسياسة الشرق الأدنى»، الاقوى والافعل بين المؤسسات الاميركية التي تناقش الشرق الأوسط، ويرأسها حالياً دنيس روس مبعوث الرئيس الأميركي السابق بيل كلينتون الى الشرق الأوسط.

وفي منتصف التسعينات طلب رئيس الوزراء الاسرائيلي آنذاك من »ايباك» ان تركز على ايران وانشطتها العسكرية والنووية، واراد في ذلك ان يخفف من استهدافها للفلسطينيين لأن اسرائيل كانت حينذاك تحاول التوصل الى سلام مع السلطة الفلسطينية.

وبسبب اتصالات روزن وما وفرته له من مداخل، نجح في تسويق مبادرات معقدة تعهدت »ايباك» بانجاحها، مثل المشروع المشترك الأميركي ـ الاسرائيلي لنظام صاروخ آرو المواجه للصواريخ، وروزن عزز العلاقات الأميركية ـ الاسرائيلية ـ التركية، وحث على اتخاذ سياسة مواجهة اميركية للحد من طموحات ايران النووية، وفي المرحلة الاخيرة كان يحاول اقامة لوبي موال لاسرائيل في بريطانيا حيث المشاعر المعادية لاسرائيل في تزايد، ودفع «ايباك» للعمل على تقوية المجموعات الموالية لاسرائيل في اوروبا وكندا واستراليا. عندما اعلن عن طرده، تنفس الكثير من اليهود الأميركيون الصعداء، فهو بنظرهم كان يجسد اكثر ما يكرهونه في "ايباك»، الافراط في اظهار القوة اليهودية، وصار في النهاية ضحية لافراطه. يبقى ان طرده، لا يعني خروج «ايباك» من أزمتها. كما ان تحقيقات جهاز الـ «اف. بي. اي» مستمرة، أنما هذا لا يعني. ان مشكلة ايران النووية حلت خصوصاً بعدما ظهر ضعف النظام الايراني في الداخل اثر احداث اقليم خوزستان، وكما قال لي محلل سياسي ايراني، ان النظام معزول اكثر مما يعتقد، ولهذا يتمسك القائمون على السلطة فيه، بالبرنامج النووي. ويضيف انه لا يستبعد تحركات عصيان في المناطق العرقية مثل كردستان وخوزستان في الغرب. وبلوشستان في الشرق. وهذا ما تراقبه عن كثب واشنطن!.