عندما تنفي الديمقراطية نفسها..!

TT

ماذا يحدث عندما «تصبح المؤسسات التمثيلية الدستورية عائقا امام القيم الليبرالية والحريات الديمقراطية؟

وما هي مشروعية مثل هذه المؤسسات اذا اقصت من دائرة التمثيل نصف الشعب الذي تستمد شرعيتها من تجسيد ارادته الحرة؟ من الواضح هنا انني اتحدث عن البرلمان الكويتي الذي رفضت اغلبيته المتكونة من التيار السلفي والشخصيات القبلية منح المرأة حقوقها السياسية والمدنية، في بلد لعله اكثر البلدان الخليجية تحديثا وانفتاحا على العالم وفي مقدمتها، من حيث التجربة الديمقراطية البرلمانية التي تعود لبداية مرحلة الاستقلال.

ان المفارقة هنا تكمن في كون الدولة ـ التي عادة ما تكون عائقا امام التغيير ـ تقود عملية التحول، وتتقدم على المجتمع الاهلي المتمسك بالموروث التقليدي المعيق لتكريس المساواة بين الجنسين الذي هو احد مرتكزات الرؤية الليبرالية التي يقوم عليها المسلك الديمقراطي.

وليست الحالة الكويتية فريدة في الساحة العربية، بل لعلها هي القاعدة في المجتمعات الخليجية المحافظة. وكلنا يتذكر المجهودات الرائدة بل و«الثورية» التي اقدم عليها الملك فيصل بن عبد العزيز في المملكة العربية السعودية في حقبة الستينات بسعيه لتعميم تمدرس البنات الذي لقي مقاومة شرسة من بعض عناصر المؤسسة الدينية. ولقد جرت محاولات من نفس النمط في عُمان ودولة الامارات العربية المتحدة اصطدمت بالعوائق ذاتها.

وحتى في المجتمعات الابعد شأواً في التحديث والاكثر انفتاحا على العالم المعاصر، تلمس المعادلة ذاتها احيانا.

وقد اوضح المفكر المغربي المرموق عبد الله العروي هذه الحقيقة في كتابه الاخير الصادر بالفرنسية بعنوان «مغرب الحسن الثاني» الذي قدم فيه شهادة فريدة ومتميزة عن عهد الملك الراحل الذي ارتبط به تاريخ الدولة المغربية المعاصرة.

ففي الكتاب المذكور ـ الذي اثار جدلا واسعا ومتواصلا في المغرب خصوصا في صفوف اليسار ـ يوضح العروي ان النسق السياسي المغربي الذي ترجع ثوابته الى مرحلة تشكل «المخزن» من حيث هو صياغة تأليفية لتجارب ثلاث هي: الخلافة (كمعيار عقدي) والزاوية (كرباط روحي صوفي) والقيادة (كزعامة قبلية) انبنى بطريقة تجعل الملك هو دينامو التحول ومحركه، في مقابل القوى السياسية التي ضاعت بالخروج المدمر على الشرعية والذوبان العقيم في النسق بدون القدرة على تغييره من الداخل.

ويبين العروي ـ على عكس الاطروحة السائدة ـ ان عوائق التحول الديمقراطي التي عانى منها المغرب منذ استقلاله لا تفسر بتنصل الملك الحسن الثاني من عقد الائتلاف والشراكة الذي جمع التيار الوطني بالملك محمد الخامس، وانما تعود في اغلب الاحيان لاخطاء اليسار الذي تبنى رؤى ومواقف كبحت التحول، سواء بالانحراف للمنطق الثوري الانقلابي او بالاحتماء بالاطراف الخارجية.

ليس المراد من تقديم هذه الملاحظات ابراء مسؤولية انظمة الحكم بتحميل المعارضات مسؤولية الاحتقان السياسي، وانما الاشارة الى جانب من جوانب المأزق السياسي العربي، نادرا ما يتم استكناهه والوقوف عنده.

وكان المفكر اللبناني غسان سلامة قد تساءل مع آخرين في اطار مشروع بحثي رائد (نشرت ترجمة اعماله في مركز دراسات الوحدة العربية ببيروت) كيف تتسنى الديمقراطية بدون ديمقراطيين، بالاحالة الى بعض مظاهر القصور الذاتية في الحقل السياسي العربي، في ما وراء رهان المنافسة المباشرة على السلطة.

بيد ان ما يجدر التنبيه اليه هنا هو واقع الانزياح الملاحظ في الساحة العربية ـ بين مسار التحديث الثقافي والمؤسسي (الجانب القيمي والموضوعي في الليبرالية) ومسار التمثيل الانتخابي والتعبئة العامة (أي الاطر الاجرائية للفعل السياسي وموازين القوة التي يترجمها) مما يولد اشكاليات حادة وعصية على الحل.

فالدولة العربية المعاصرة امتاحت شرعيتها وطاقتها التعبوية من مشروع التحديث المجتمعي والتنموي، مما فرض عليها في الغالب الاصطدام بالبنيات الاجتماعية والثقافية ذات الايقاع البطيء، فأدت في اغلب الساحات العربية دورا ثوريا انقلابيا، على اختلاف الواجهات الايديولوجية المرفوعة. وعلى الرغم من الخطاب التوفيقي التأصيلي الذي سلكته في الغالب الانظمة السياسية العربية، الا انها انساقت ـ راضية او مضطرة ـ وراء النماذج المجتمعية الغربية ووجدت فيها الاطار الاوحد المتاح للخروج من اسر «التخلف».

ولم تكن عملية الخلخلة والقلق الموصومة لتحدث من دون قدر معين من التسلط والاكراه، تفاوت بحسب السياقات، لكنه جلي واضح في كل التجارب العربية.

وكما ان التجربة العلمانية التحديثية القصوى الوحيدة في العالم الاسلامي أي التجربة التركية اتسمت بالكليانية والاحادية، فان النماذج العربية انطلقت اجمالا من نفس المصادرة، أي الايمان بضرورة ممارسة نوع من الوصاية الابوية على القاعدة الشعبية العريضة لتأهيلها لممارسة الديمقراطية التعددية، من خلال خلق البنية التحتية المؤسسية والارضية الفكرية الملائمة للتحول المنشود.

ولم يشذ الخطاب الفكري التحديثي عن هذه المصادرة، بل ثبتها وبلورها في خطاب عالم، تمحور حول مفهوم «المثقف العفوي» وبصفته البديل عن الضمير الجمعي «المكبل» بالجهل و«التخلف».

فالتجربة العربية من هذا المنظور لا تختلف شكليا عن التجارب الاوروبية في عصر الانوار، حيث سلك فلاسفة الانوار مسلكا مناهضا لاطلاق الحريات العامة، سواء باختزال الارادة الفردية الحرة في الدولة المطلقة كتعبير عن الارادة المشتركة (روسو) او تبرير تنازل الافراد عن حرياتهم لصالح دولة شاملة مطلقة تحفظ امنهم ومصالحهم (هوبز).

ففي عصر الانوار اذن كان الانفصام قائما بين القيم الليبرالية والاطار الاجرائي لممارسة السياسية، ولم ينته الانفصام الا بعد قيام الثورات الدستورية والشعبية بعد قرن كامل من انتشار الافكار والمفاهيم الليبرالية.

وهنا مكمن الخلاف مع التجربة العربية، حيث لم يُمهد للانفتاح السياسي بمناخ فكري مماثل يغرس قيم التنوير والتعددية، ولم تنجح الدولة التحديثية المستقلة في استكمال مشروعها لتحديث المجتمع وتنميته، فبقي الانفصام قائما بين الارضية الليبرالية والآلية الاجرائية الديمقراطية. والخطورة هنا ان القيم الليبرالية التحديثية تحولت الى ورقة رئيسة من اوراق الصراع السياسي ـ الايديولوجي القائم، تكون احيانا اداة اقصاء واحيانا اخرى مدار اعتراض رهانا على ديمقراطية اجرائية بدون مرجعية ليبرالية.

فالتحدي الابرز المطروح اليوم على الديناميكية الاصلاحية العربية يتمثل في مدى القدرة على حماية الديمقراطية من ميلها الانتحاري، أي اغراء الانسياق وراء الاتجاهات الشعبوية غير الليبرالية التي هي المستفيد الاول من الانفتاح السياسي.