واشنطن: جمع الشتاء والصيف فوق سطح واحد..!

TT

من غرائب وعجائب السياسة الأميركية في هذه المرحلة المفصلية الهامة ان واشنطن تحاول، تحت لافتة «الاصلاح»، جمع التناقضات معاً، والامساك بالذئب والخروف بيد واحدة، ووضع الشتاء والصيف على سطح واحد، وذلك من دون توفير الأجواء الملائمة لما يسمى بـ«المساومة التاريخية» ودون تهيئة الظروف ليصبح اللقاء بين الأضداد في منتصف الطريق ممكناً، وقبل ان تتوفر القناعات الفعلية والحقيقية لقبول «الاسلامويين» بـ«الليبراليين» وقبول «الليبراليين» بتنظيمات ومجموعات وجماعات الاسلام السياسي.

ربما هناك امكانية للعودة الى الودِّ القديم والحلف السابق بين تيارات الاسلام الاسلامي في هذه المنطقة وبين الولايات المتحـدة فالمثل يقول: «من ليس له قديم ليس له جديد». لكن ما هو غير ممكن وعلى الاطلاق هو جمع «الاخوان المسلمين» وفلول الأحزاب الشيوعية وبقايا لاحزاب والتنظيمات القومية على برنامــج عمل واحد عنوانه «الاصلاح» والديمقراطية والليبرالية والقبول بالتعددية السياسية.

ويدل الاندفاع الشديد في هذا الاتجاه على ان مخططي السياسات الخارجية الأميركية، وبخاصة تجاه هذه المنطقة، لم يستفيدوا من دروس الأعوام الأخيرة، فالحصول على الدجاجة التي تبيض ذهباً لا يتم بالعودة الى التحالف القديم مع تيارات وقوى الاسلام السياسي، التي لم تغير بَعْدُ ما في قلوبها رغم أنها غيرت جلودها، ولا بِخطْبِ ودِّ التنظيمات والقوى الشمولية التي مارست أشد أشكال البطش والقمع والديكتاتورية عندما وصلت الى الحكم والمثل يقول: «ربما يتخلى النَّمر عن جلده المرقط لكنه لا يمكن ان يتخلى عن غريزته العدوانية التي فطر عليها».

هناك شيء اسمه «التـَّقية» ربما لم يسمع عنه مخططو السياسات الخارجية الأميركية، أو انهم سمعوا عنه لكنهم لم يصدقوا ما قرأوه أو سمعوه، فالتقية هي اظهار الانسان غير ما يبطنه، وهو ان يلجأ تنظيم من التنظيمات أو اتجاه مـن الاتجاهات الى «الكُمون»، والى احناء الرأس حتى تمر العاصفة، وحتى تصبح الظروف ملائمة للعودة الى ما كان مختبئاً في الصدور.

ولهذا فان ما يجب ان يعرفه الاميركيون، الذين يبدو أنهم لم يستفيقوا بَعْدُ من صدمة الحادي عشر من سبتمبر (أيلول) عام 2001، هو أنه لا يمكن جمع الشتاء والصيف فوق سطح واحد، وان الأفعى قد تغير جلدها لكنها لا يمكن ان تغير غريزتها، وأن بعض الأنظمة العربية التي يعتقد مخططو الادارة الأميركية أنه لا بد من تغييرها في اطار عملية الاصلاح المنشودة، هي أكثر ليبرالية وصَلاحاً من بعض التيارات والقوى التي يراهن عليها هؤلاء المخططون، الذين باتوا يتصرفون تجاه هذه المنطقة وكأنهم اكتشفوا حياة بشرية في كوكب آخر.

لا يوجد في كل دول هذه المنطقة تياران متناقضان ومتعارضان ومتصادمان الا في إيران، ولذلك فان المطلوب بالنسبة لهذه الدول هو ليس افتعال صراع وهمي بين إصلاحيين ومحافظين، قد تصبح السيطرة عليه غير ممكنة وقد تكون نتيجته المزيد من العنف والإرهاب، وإنما الحداثة وتجديد شباب مجتمعات هذه الدول وترشيقها وإبعادها عن التطرف، وتعزيز حلِّ إشكالاتها ومشاكلها بالطرق السلمية، وهو أيضاً إطفاء بؤر التوتر في الشرق الأوسط وعلى رأس هذه البؤر الصراع العربي ـ الإسرائيلي.

لقد سادت قناعة لدى الأميركيين بعد كارثة الحادي عشر من سبتمبر عام 2001، بأن غياب الديمقراطية والحريات العامة والتعددية السياسية هو الذي جعل بعض دول هذه المنطقة تصبح مفارخ للعنف والإرهاب، والحقيقة ان هذه القناعة غير صحيحة، والدليل على ذلك ان نظاماً شمولياً وقمعياً لا يحترم حقوق الإنسان ولو بالحد الأدنى، لم ينتج إرهاباً كالإرهاب الذي أنتجته الأنظمة المرنة والمتسامحة والتي إن لم تكن ديمقراطية ولا تقبل بالتعددية السياسية فإنها غير دموية على الأقل.

وهنا فإن البعض قد يعترض على الاستخلاص الآنف الذكر بالإشارة الى ان سوريا، التي يحكمها حزب شمولي بقي ينفرد بالسلطة ويتفرد بها منذ بدايات عقد ستينات القرن الماضي قد شهدت إرهاباً، في عقد ثمانينات القرن العشرين، أكثر دموية من الإرهاب الذي لا يزال يضرب مصر والمملكة العربية السعودية واليمن وبعض دول المنطقة العربية الأخرى ومن بينها الجزائر والمغرب.

والحقيقة أنه غاب عن أذهان هؤلاء الذين ينْظُرون الى الامور من هذه الزاوية وبهذه الطريقة ان الإخوان المسلمين وبعض التيارات التي انشقت عنهم، هم الذين مارسوا كل ذلك العنف في سوريا في ثمانينات العقد الماضي، وأن مبرر هؤلاء لممارسة ذلك العنف الذي حصد أرواحاً بريئة كثيرة لم يكن غياب الديمقراطية والسعي الى «الإصلاح» الذي يتحدث عنه الأميركيون بأصوات مرتفعة الآن، وإنما حكم الأقلية «العلوية» التي كان «إخوان» سوريا يعتبرونها وما زالوا يعتبرونها طائفة خارجة على الاسلام.

يجب ان يفتح الأميركيون عيونهم جيداً، حتى لا يقعوا في الأخطاء نفسها التي وقعوا فيها في أفغانستان في عهد حكم «طالبان، وقبل ذلك، فالمراهنة على الفقاعات الاصلاحية التي باتت ظاهرتها تشبه الـ«بوب كورن»، مثلها مثل المراهنة على تنظيمات الاسلام السياسي الشمولي، ومحاولات جمع الصيف والشتاء فوق سطح واحد، ستدفع المنطقة الى المزيد من الارتباك والى المزيد من العنف والتطرف، وربما الى العودة الى الانقلابات العسكرية.

ان أدوات الاصلاح الفعلي المؤدي الى التغيير السلمي، البعيد عن الخضات الاجتماعية والسياسية، التي قد تصبح السيطرة عليها غير ممكنة بل ومستحيلة، ليس تنظيمات الاسلام السياسي التي من المؤكد أنها ستلجأ الى «التقية» من قبيل انتظار الظروف المناسبة لتقوم بهجومها المضاد وليس مجموعات الشباب المندفعين الذين بادروا الى وضع «الماكياج» الاصلاحي على وجوههم، على أمل الوصول الى مواقع السلطة لاحداث تغييرات في أنظمة دولهم، خدمة لمصالحهم وتطلعاتهم الشخصية، السياسية والاقتصادية.

لا أمل بالوصول الى اصلاح حقيقي يُبعِدُ مجتمعات وأنظمة هذه المنطقة عن العنف والإرهاب والخضات المفاجئة ويجنبها تجربة أفغانستان المريرة، وتجربة العراق التي لا تزال عالقة في عنق الزجاجة، الا باطفاء بؤر التوتر واتباع سياسة المراحل، وتحديث هذه المجتمعات وهذه الأنظمة بدون صخب ولا ضجيج، ولا افتعال صراعات وهمية غير موجودة، قد تصعب السيطرة عليها مع الوقت، وقد تتحول الى ما هو أشد وطأة من الإرهاب وهو الحروب الأهلية.