بريطانيا في نفق الاختبار.. وبلير على موعد مع التاريخ

TT

يعلم الذين يشتغلون بالشأن السياسى البريطاني، من مراقبين ومحللين، الصعوبة البالغة التي تكتنف قراءة الرأي العام في المملكة المتحدة. إذ تعاني حتى مؤسسات قياس الرأي المحترفة من مشكلات الاقتراب من آراء الأفراد العاديين والغوص في أذهانهم ومحاولة رصد توجهاتهم وتفحص مضامين اختياراتهم، وبالتالي التكهن وتوقع ما تسفر عنه حركة المستقبل للسياسة البريطانية. حتى ولو كان هذا المستقبل الحسم بنتيجة انتخابات لا تفصلنا عن موعدها، سوى ساعات. وتتأتى الصعوبة، في مرحلة الانتخابات خاصة، من عدم الانفعال الذي يبديه البريطانيون بحركة السياسيين وحراك السياسة في مواسم الانتخابات، خاصة عند تقارب مواقف الأحزاب المتنافسة في رؤاها الكلية للقضايا التي تهم الناخب البريطاني.

لذا، فإن استطلاعات الرأي هنا قد تؤشر على احتمالات النتيجة ولكنها لا تضمن صدقيتها. فقد أظهرت كل استطلاعات الرأي، التي أجريت بعد إعلان موعد الانتخابات في الخامس من مايو الجاري ـ اليوم ـ، أن حزب العمال متقدم على حزب المحافظين.

ولكن بلير لم ينس، انه مقبل على امتحان حانت ساعته وأنه مرشح حزب العمال فيه، فقال مقررا ان الانتخابات العامة تضع البريطانيين أمام خيار مهم. وقال: «نفخر بما حققناه خلال الأعوام الثمانية الماضية، ولكن يجب ألا نراوح مكاننا». أي أنه عائد ببرنامج جديد يكمل «النجاحات» التي تحققت ولا ينتقص منها، فشدد على أهمية الاستقرار الاقتصادي والاستثمار في الخدمات العامة، الذي ميز فترته الثانية التي تودع أيامها الأخيرة. وأعاد بلير تأكيد وعود حزبه للانتخابات العامة المقبلة، بالعمل من أجل الحفاظ على الاستقرار الاقتصادي، وذلك في محاولة الدخول للتاريخ من خلال اعادة انتخابه، ليكون بذلك أول رئيس وزراء بريطاني يفوز بالمنصب ثلاث مرات متعاقبة.

ورغم تعهد البرنامج الانتخابي لحزب العمال، الذي تألف من 110 صفحات، ولأول مرة منذ عام 1997، لم تظهر صورة رئيس الوزراء الحالي وحده على غلاف وثيقة حزبه، بل يظهر بلير في صور حملته الانتخابية مع وزير ماليته، غوردون براون. وكان قد تعهد بلير أن يحتفظ براون ـ رغم الخلافات بينهما ـ بمنصبه بعد الانتخابات العامة في محاولة للتأكيد على استمرار الاستقرار الاقتصادي. وشمل البرنامج الانتخابي العديد من الوعود الأخرى، مثل زيادة الحد الأدنى للأجور، وزيادة نسبة العاملين من 75 في المائة إلى 80 في المائة من عدد السكان في سن العمل. إلا ان الوثيقة لم تتناول قضايا رئيسية مثل موقف بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، الذي لا يزال غامضا. وأكد البرنامج الانتخابي للحزب استهداف ثبات معدل التضخم في بريطانيا عند نسبة اثنين في المائة، الأمر الذي قد يلزم بنك إنجلترا تعديل معدلات الفائدة مستقبلا. وكرر البرنامج، تعهدات حملات انتخابية سابقة، بعدم زيادة الحدين الأدنى والأقصى لضريبة الدخل. وكان هذا الالتزام محورا رئيسيا لبلير في انتخابات 1997 و2001.

أما مايكل هوارد زعيم المحافظين فاعتبر أن الناخبين أمام خيارين: «إما مكافأة بلير على ثمانية أعوام من الوعود غير المحققة والتصويت على خمسة أعوام إضافية من الكلام. أو التصويت للمحافظين ودعم حزب قد اتخذ موقفا والتزم العمل على القضايا المهمة». وسبق أن أعلن هوارد عن أولويات حزبه المتمثلة بزيادة عدد قوات الشرطة وتخفيض الضرائب وتحسين النظافة في المستشفيات والانضباط في المدارس والحد من الهجرة وتقليص عدد طالبي اللجوء السياسي.

أما تشارلز كنيدي، زعيم الليبراليين الديمقراطيين، فقد أكد في جولته في مانشستر ونيوكاسل، حيث الناخبون يدعمون حزبه، أنه يمثل «البديل الحقيقي». كما وعد بالابتعاد عن الحملات السلبية. وقال كنيدي: «سوف أخاطب آمال الناس وليس مخاوفهم». وقد أعلن عن خطته لجعل السكن أقل كلفة. كما أعلن عن رغبته بزيادة عدد قوات الشرطة واستبدال ضريبة البلدية بضريبة محلية على الدخل.

ويلاحظ أنه مع بداية الحملات الانتخابية تضطر الحكومة إلى الاسراع في إقرار ما تبقى من القوانين في مجلس العموم. غير أن عددا من القوانين قد لا يقر. ويقدر أن حوالي نصف القوانين الـ28 التي طرحت في العام الماضي بعد الخطاب الملكي قد تلقى جانبا. ومن بين هذه القوانين الخطة المثيرة للجدل التي طرحها وزير الداخلية تشارلز كلارك لاصدار بطاقات هوية جديدة. كما اعتبر كلارك أن المشروع القاضي بجعل التحريض على الكراهية الدينية جرما قد يلقى جانبا أيضا، برغم مطالبات الجالية العربية والمسلمة الملحة بذلك، وتجاذبات الأحزاب البريطانية لهم قبل الانتخابات. إذ يبلغ تعداد الجالية المسلمة في بريطانيا مليوني نسمة تقريبا، ويبلغ تعداد العرب فيها تسعمائة ألف، ينشطون في كل مناحي الحياة ما عدا السياسة. وعادة ما تعمل الأحزاب البريطانية، مع اقتراب الانتخابات، على مد جسور التلاقي مع الجالية العربية والمسلمة، ليس لربح أصواتها ولكن لجعلها أكثر تفاعلا مع المجتمع البريطاني، من خلال الانخراط في العمل السياسي. لكن الريبة لدى أعضاء الجالية لا تزال هي السائدة بسبب المواقف الحزبية من قضايا مصيرية بالنسبة لهم، سواء داخل المملكة المتحدة أو في العالم العربي والإسلامي. فالعلاقة بالحزب الحاكم (حزب العمال) تأثرت كثيرا بسبب الحرب على العراق، وهو ما دفع بأعضاء الجالية العربية والإسلامية إلى التلويح بإمكانية معاقبة العماليين انتخابيا. صحيح أن أصوات الجالية العربية والإسلامية لا يمكن أن ترجح كفة الانتخابات عموما، ولكنها شديدة التأثير في بعض الدوائر، مثل دائرة «بلاكبورن»، التي يتنافس فيها وزير الخارجية جاك سترو وتشكل اصوات المسلمين أكثر من 20 في المائة من الهيئة الناخبة أو مجموع الأصوات.

ورغم تساوي مواقف الحزبين الكبيرين (العمال والمحافظين) من الحرب على العراق، إلا أن تداعيات الوضع في العراق على الانتخابات البريطانية لا يزال يشكل هاجسا، لا يريد أي منهما الحديث عنه. ولكن للديمقراطيين الأحرار رغبة موضوعية في طرح نتائجه وجعله قضية انتخابية. فقد كتب مينزيس كامبل، نائب رئيس حزب الديمقراطيين الأحرار في صحيفة «الأوبزرفر» الصادرة يوم الأحد 24/4/2005، يقول: «هنا في بريطانيا نبحث خلال الحملات الانتخابية قضايا الضرائب، والعناية الصحية، فيما تستمر الأوضاع في العراق في التدهور». مضيفا أنه منذ «دعوة رئيس الحكومة توني بلير لاجراء الانتخابات لقي 140 شخصا على الأقل حتفهم في العراق».

وقال كامبل: «إن العراق كان أهم قضايا البرلمان السابق، ولا يمكن تجنب تناول هذه القضية خلال الحملات الانتخابية حتى بين أولئك الذين يعتقدون بأن الاطاحة بصدام حسين تبرر العمل العسكري لأنه ما زال هناك الكثير من الجدل حول الطريق الذي سلكته الحكومة لدفع البلاد إلى الحرب». وقالت «الأوبزرفر» من جانبها «إنه بعد عامين من إعلان الرئيس الأميركي الانتصار في الحرب على العراق، يعاني العراقيون تدهورا في كافة الخدمات من مياه وكهرباء كما يعاني البلد نقصا في المواد الغذائية».

ولن يأتي خبر فوز حزب العمال الجديد في الانتخابات العامة البريطانية المقبلة مفاجئا لأحد. رغم أن هذا النوع من التكهنات وما يلحق بها من قناعات يقلل الاكتراث بالعملية الانتخابية ذاتها، فكلما أشارت التوقعات بضمان فوز حزب معين، كان إقبال الناخبين ضعيفا. مثلما حدث في دورة الانتخابات الماضية إذ ذهب فقط 60 في المائة من البريطانيين البالغين سن الاقتراع إلى الصناديق وعبروا عن اكتراثهم بالموضوع فصوتوا، وشكل هذا الإقبال التوجه الأضعف إلى صناديق الاقتراع منذ عام 1918.

وكما في كثير من الدول الغربية، فإن عدد الرجال والنساء من أصحاب الكفاءة والشخصية الملائمة المهتمين بالسياسة والحياة السياسية البريطانية يقل تدريجيا، وقد تبخر مبدأ الخدمة العامة الذي نشأت أجيال من البريطانيين على الاعتقاد بشرفيته وضرورة التضحية من أجله. وكانت رئيسة الوزراء المحافظة السابقة مارغريت ثاتشر قد قالت في إحدى المناسبات السابقة: (لم يعد هناك شيء اسمه المجتمع)، وقصدت بذلك ان بريطانيا تحولت إلى دولة من الأشخاص الفرديين والمقاولين بدلا من وحدة مترابطة إنسانيا واجتماعيا، حيث يعمل كل إنسان لمصلحة وطنه.

وقد يحاول توني بلير وحكومته المقبلة تأكيد خطأ تقييم ثاتشر هذا بالنسبة إلى المجتمع البريطاني، ولكن ظاهرة غياب الأشخاص الصغار السن وأصحاب المواهب والقدرة عن الحياة السياسية، تؤكد ان نسبة كبيرة من الشعب البريطاني لديها مثل هذا الشعور، وهذا توقع محبط بالنسبة إلى بلد يحب ان يطلق على نفسه لقب «أم الديمقراطيات». وفي عصر بدا فيه أن سلعة التصدير الغالية والغالبة هي الديمقراطية، ونموذج الاختبار والاختيار فيها هو آلية الانتخابات.

*كاتب سوداني