الاستراتيجيا العرجاء.. في مشروع الإصلاح

TT

عندما يكون المرء جائعا لا يفكر إلاّ في الأكل. وفي حالة العطش، يتلبسه الماء حلما. وإذا ما لفحه البرد القارس فإنّ الدفء يكون هاجسه الأوحد. هكذا هو شأن الإنسان إذا ما استبدت به غرائزه، ووجد نفسه أسير طبيعته التي تشكل نصيبا من كينونته. فالهوس آليّة تتحرك من خلالها الغريزة وتبلغ مبتغاها. وبقدر ما تبدو هذه الآليّة ناجعة في الجانب الفيزيولوجي للفرد، فإنّها آليّة خاطئة وفي غير محلها، إذا ما تعلّق الأمر بالمعضلات الاجتماعية والسياسية والثقافية.

فالهوس، الموضة اليوم هو موضوع الإصلاح السياسي: دعوة تحمل نبرة عالية الصوت وحادة الصياغة. وكطبيعة الهوس الجوهريّة، فهو يقوم على التركيز الأوحد، وعلى تعصب نفسي انفعالي تصبح في حضرته كل الضرورات الأخرى غائبة. فلا شك أن المجتمعات العربية، تحتاج إلى الإصلاح السياسي، فتلك المسألة لا تقبل الشك في وجاهتها.

ولكن هل ان الإصلاح السياسي هو كل الإصلاح؟ هل كل مقاصد الإصلاح سياسيّة في طابعها وعمقها؟ ثمّ هل انّ الإصلاح السياسي، مرحلة مستقلة بذاتها، أم تشترط أن تسبقها، أو على الأقل توازيها، تطبيقات أخرى للإصلاح لا تقل قيمة، بل تزيد؟ وهل من أمل حقيقي في إصلاح سياسي في ظل إهمال أبعاد مشروع الإصلاح الأساسيّة؟

إنّ محاولة فهم الهوس الحاصل اليوم حول الإصلاح السياسي، والذي تتبناه بقوة تيارات سياسية وفئات اجتماعية كثيرة، ليست بالمحاولة العسيرة. ذلك أنّه من فرط معاناة المجتمعات العربية من السياسة، أصيبت بعقدة متأصلة ضدها: ظلم واستبداد وتوقعات غير مشبعة. وتفشي ظاهرة الفساد والقمع والاعتداء التاريخي والمقنن على الحريات والحقوق. ولكن ما يصعب فهمه والاقتناع به هو الإيمان المطلق والأعلى بأنّ كل أزماتنا ستضمحل إذا ما تحقّق الإصلاح السياسي. فمثل هذا الفهم لا يفكر سوى في اتجاه واحد، ولا يتبصّر في عمق الأمور إلا من زاوية نظر عين واحدة. أليست مقولة «كما تكونوا يولى عليكم» اعترافا ضمنيا وعلنيا بأن الحاكم والمحكوم تجمعهما نفس المرآة، وبالتالي فالأزمة هي أزمة حاكم وأزمة محكوم حسب المنطق والتفكير الصريح.

فإن كان الإصلاح المطلوب لا يتجاوز فضاء ما هو سياسي، فإنّ الوصفة اللازمة معروفة والجميع يعرف أسماء الأدوية المطلوبة والمتمثلة في: معالجة الدساتير والفصل بين السلطات، وإقامة عقد اجتماعي يضبط الحقوق والواجبات، وإقرار ما يضمن حيادية الدولة وعدم مركزيّة القرار السياسي، ومحو حالة الاندغام بين الحاكم والدولة.

كل هذه القرارات الهامة بالإمكان تدوينها والمصادقة عليها في أربع وعشرين ساعة. ولكن ماذا بعد؟ فالمطلوب على صعوبته سهل التنفيذ الآلي والظاهري. بالإمكان تحقيق إصلاح سياسي يلعب دور الديكور الفخم من دون أن يتحقق أي إصلاح في العمق .

إذن الإصلاح السياسي ضرورة متأكدة، ولكن أمام الهوس الحاصل اليوم في شأنه، فقد تم إهمال الإصلاح الاجتماعي والثقافي كمرحلتين مقدمتين، ويحتاجان إلى ما هو أصعب من القرار والقانون. ذلك أن إصلاح الفرد العربي ومراجعة النسق القيمي الذي يتحكم في أفعاله، وفي الفعل الاجتماعي بشكل عام، مسألة تحتاج إلى زمن وإلى تراكم معرفي يعيد إنتاج الفرد العربي بأدوار جديدة، ومفاهيم أخرى تؤهله للتورط إيجابيا ومن الجذور في مشروع الإصلاح.

فالمجتمعات العربية اليوم في أمس الحاجة إلى معالجتها اجتماعيا ونفسيا، ومراجعة موروثها الثقافي بكثير من النقد والوضوح والصراحة. ومن الخطأ الظن أن المشكلة برمّتها تكمن في علاقة الديني بالسياسي والديني بالاجتماعي، في حين أنّ أغلب ما يحسب على الدين خطأ هو من قبيل العادات والتقاليد، التي تمثل المقدّس المسكوت عنه. ولن يتم التطهير الثقافي والاجتماعي، إلا بمواجهة المنظومة الأخلاقية السائدة وتحرير العقل والنفس من شوائبها، فحينها فقط نصلح الأساس ويمكن الإيمان بفاعلية الإصلاح السياسي، المؤسس على قواعد وكل تراكم يشمل الاجتماعي والثقافي.

وإذا ما نظرنا في الثورة الفرنسية التي تمثل الثورة النموذج في تاريخ البشرية، سنجد أنها ثورة في عمق الضمير الأوروبي، لذلك تلت تلك الثورة الانتصارات السياسية ووجدت الديمقراطية الطريق معبدة أمامها. والطريق المقصودة هي الإنسان الفرنسي الأوروبي. والإصلاح الثقافي والاجتماعي وحده قادر على اقتحام التنشيءة الاجتماعية للفرد العربي، وجعله يمتثل إلى ثقافة مغايرة تكترث بالفرد بنفس اكتراثها بالجماعة، وبالداخل الإنساني وبفكرة الحريّة سواء أكانت سلوكا أم فكرة أم إحساسا.

وكي لا يشعر البعض بأنّ هذه الورقة تتنقص من أهمية الإصلاح السياسي، لا بد من التوضيح بأنّ الإرادة السياسية للإصلاح بدأت في الظهور، وسيزداد ظهورها في الواقع السياسي العربي سواء بطيب خاطر أو بالضغط، بينما الإشكال الأكبر يكمن في تواضع الإرادة الاجتماعية وإرادة النخب الدينية في خوض مشروع الإصلاح.

والأمثلة التي تظهر أن العراقيل أكبر وأكثر تعقدا من أن تسجن في زنزانة ما هو سياسي فقط كثيرة، وأخيرا رأينا التردد الذي حصل في إصلاح ملف المرأة بالجزائر والفشل الذي حصل في المغرب.

ولا يخفى على أحد أيضا الجدل الحاد الحاصل حول الحقوق السياسية للمرأة الكويتيّة، ففي مقابل الإرادة السياسية القوية للنظام، نجد رفضا كثيرا من كتلة إسلامية في البرلمان وتضم ثلاثة عشر نائبا، إذ هدد زعيم هذه الكتلة بملء الشوارع بالمعارضين لحقوق المرأة. والأنكى من موقف الكتلة الإسلامية هو موقف شق من النساء الكويتيات إذ أوضح بيان جمعية الصحافيّين الكويتيّين المنشور يوم 22 مارس 2005 بأن أغلب النساء الكويتيات يعارضن هذه الحقوق أو على الأقل لسن متحمّسات لها.

وكل هذا الجدل الحامي الوطيس بسبب إقرار الحكومة الكويتيّة في مايو 2004 مشروع ينص على تعديل المادة الأولى من قانون 1962، والذي يحصر حق التصويت والترشح على الكويتيّين الذكور من دون الإناث. وعندما نرى أنّ بعض النساء (أو الأغلبيّة) ضد الحقوق السياسية للنساء، فنحن أمام حقيقة مرّة وهي أن المرأة عدوة نفسها وبالتالي فإن الأعداء كثر داخلها ومحيطين بها. زد على ذلك تفشي ظاهرة الزواج العرفي والدفاع المستميت الذي يقوم به البعض على مسألة تعدد الزوجات. هل انّ المجتمعات التي لا تزال تعيش هذه الأسئلة، وما زالت تتجادل حول الحق السياسي للمرأة والحق الإنساني لها، يمكن أن تقفز على أزماتها الاجتماعية والثقافية العميقة والمزمنة،وتقتصر في النضال على ما هو سياسي فقط.

أظن أن التعاطي المبدئي مع الإصلاح السياسي قد أبرز للعيان الكثير من العلل الاجتماعية والثقافية، التي تمثل مفاتيح مشروع الإصلاح المتكوّن من أجنحة متعددة متزامنة وتشكل جميعها عناصر أساسية لأوركسترا الإصلاح.

ولعل فضيحة الفساد المادي التي فاحت روائحها في العراق الجديد، دليل على أنّ إصلاح المجتمع وإشباعه بثقافة الضمير والأخلاق، ثمثل جوهر الإصلاح. لذلك فإنّ مسؤولية النخب الثقافية والدينية كبيرة لتحقيق التراكم المعرفي العقلاني والمجتهد، حتى لا يظهر لنا أفراد في معركة مع أنفسهم ومع الآخر ومع الحرية ومع تحرير العقل.

[email protected]