الرهان على عودة الجنرال

TT

يعود الى لبنان اليوم العماد ميشال عون بعد نفي استمر 15 عاما في فرنسا. ولا يحتاج الجنرال، وهو لقبه الاشهر، تعريفا عن ظروف ابعاده. والقمع المتواصل الذي تعرض له مؤيدوه في التيار الوطني الحر لم يؤد مبتغاه، بل زاد من شعبية الرجل الذي عرف عنه عناده في الثبات على مواقفه، ورفضه النقد والرأي الآخر.

اليوم يعود الجنرال ويتحقق شعار «عون راجع» في احتفال شعبي حاشد ومتوقع، يشفي غليل الذين صمدوا وأمنوا بخطه.

كيف تُقرأ هذه العودة في ظل متغيرات لم تكن متوفرة قبل اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري؟ او هل يمكن قراءتها بمعزل عن الجريمة؟

قد لا يوافق الجنرال على الطرح. ولكن قبل الخوض في هذه الفرضية لا بأس بــ«فلاش باك» سريع لتوضيح صورة ما قبل 14 فبراير. آنذاك كثر الحديث عن غزل سوري وسلطوي لبناني لعون وعن اتصالات بين بيروت ودمشق وباريس. فجأة اصبح عون الرجل الاكثر وطنية ومبدئية. وفجأة مُنح صك البراءة، في حين انهالت الاتهامات من الوزن الثقيل على الرئيس الشهيد رفيق الحريري، واصفةً اياه بعراب القرار 1559. نسي المغازلون الدور السابق لعون في القانون الاميركي لمحاسبة سورية، والذي استوجب في حينه من المدعي العام التمييزي المعزول عدنان عضوم، احالته الى القضاء بتهمة الاساءة الى دولة شقيقة.

لكن جريمة اغتيال الحريري قضت على هذه الصورة. واصطف التيار الوطني الحر في صفوف المعارضة التي نسفت الخريطة السياسية اللبنانية وادت الى استقالة الحكومة وانسحاب سورية.

الا ان الاجواء المرافقة لعودة الجنرال نبضت في الايام القليلة الماضية بمؤشرات ثباته على اجندة لم تتغير. فالرجل الذي بدا متماسكا خلال الفترة السابقة، ومستدركا لكل «زلة لسان» (لا يعترف بها بالطبع)، عاد ليؤكد مع اقتراب ساعة الصفر، انه قائد مسيرة تحرير لبنان، لاغياً اي دور لغيره في المعارضة ومسطحاً تداعيات جريمة 14 فبراير وما نتج عنها. كذلك لم يتورع عن اتهام فريق من المعارضة بالخيانة وبتهريب قانون العام 2000 للانتخابات النيابية، وتوجيه الانتقاد الى الزعيم المعارض وليد جنبلاط.

الا ان الامور سرعان ما سويت، وتبين ان الاشتباك السياسي والاعلامي بين عون وجنبلاط بلغ مرحلته الاخيرة، وأن حالة وطنية تجمع الرجلين وحقائق يلتقيان عليها، ما يعني ان الرهان على جنرال «التعبئة الدائمة والتصعيد الدائم» ربما لم يعد في محله، فهو يوقن ان المرحلة تتطلب منه التمييز بين المساومة والتسوية، وبين التنازل والتواطؤ الايجابي مع شركاء الوطن، اذ ليس من المعقول ان تكون 15 عاما من النضال في المنفى، حصيلتها ربح قليل في بلد خاسر، عوضا عن خسارة قليلة في بلد رابح.

من هنا يجب ان تفعّل عودة عون منطلق تكريس الوحدة الوطنية، وليس كصيغة للاصطفاف الطائفي وراء الرمز الذي يختزل المؤسسة. فاللبنانيون تعبوا وملوا. ولم يعد مقبولا رهان بعض السوريين ورموز السلطة الموالية لهم على قدرتهم على احياء زعامات الطوائف، بعد ان استطاعت الحالة الحريرية تذويب هذا الواقع الى حد ما.

فالتخطيط الذي ساد مرحلة ما قبل الطائف الذي يخدم هذا الرهان، يرمي الى إرساء أسس حياة سياسية تعتمد التصارع داخل كل طائفة للتمكن من الامساك بقرارها، والتصارع بين الطوائف من اجل المحاصصة السياسية والوظيفية.

من هذه الرؤية يطيب للبعض ان يسلط المجهر على الصراع المحتمل، من خلال احتكار الجنرال معركة استقلال لبنان وجلاء القوات السورية عنه، في مقابل رفع القوات اللبنانية شعار «11 عاما حرا تحت سماء لبنان»، للاشارة الى ان جعجع المسجون في وزارة الدفاع بحكم لمدى الحياة، لم يهرب متخليا عن جماعته، كما فعل عون عندما لجأ الى السفارة الفرنسية عام 1990.

البعض يتمنى استثمار عودة الجنرال في هذا الاتجاه.

لكن البعض الآخر يقرأ في كتاب مختلف. ورهانه مستمد من انتظار ما سوف تنسجه الحالة الحريرية الجديدة، بقيادة سعد الدين الحريري وتركيزه على تحويل «تيار المستقبل» الى حزب وطني، بامتياز لا تتحكم به الاطياف المذهبية، يتابع مسيرة لبنان الحديث مع رفاق المرحلة، ومن ضمنهم الجنرال، اذا أراد.

اي رهان سيربح؟ هل تساهم عودة ميشال عون بالتصعيد بين الافرقاء التقليديين بعد اعادة تركيب البازل الطائفي؟

ام ان التطورات التاريخية التي اعادت الجنرال مكللا بالغار، بدأت بحفر قبر المزرعة الطائفية التي لم يبلغ من فيها سن الرشد؟

غدا لناظره قريب.

* صحافية لبنانية