(الضمان الأخلاقي).. للمصلحة المشتركة

TT

بمفهوم (وطني) ـ يجرد المصلحة الامريكية من كل هوى غير امريكي ـ قال مسؤول امريكي سابق هو جيمس براون: «ان لدينا برامج اوسع في منطقة الشرق الاوسط، ولنا مصالح تتعلق بالأمن القومي وتتجاوز اسرائيل».

هذا كلام واقعي جدا، ونفعي جدا: يظفر منا بالتأييد والتبني، لأنه في مصلحتنا ايضا.

فمن المصلحة الحيوية للولايات المتحدة: الحصول المستمر على (روح) الحركة الصناعية، والحياة المدنية العامة، وهي (طاقة النفط).. وكذلك تأمين امدادات النفط او اعتدال اسعاره.

وهذه هي (عين) المصلحة الحيوية للسعودية المتمثلة في تصدير النفط، وتأمين امداداته، واعتدال اسعاره.. وهذه هي المصلحة (الحيوية المشتركة)، من المقدر علميا: ان تستمر عشرات السنين في المستقبل.. يضم الى ذلك مصالح حيوية اخرى عديدة منها: الاسواق المفتوحة.. والاستثمار المتبادل.. والتعليم واكتساب التكنولوجيا.. والتعاون الوثيق في مجال مكافحة الارهاب ـ مثلا ـ.

هذا كله مهم وحيوي يجب الحرص عليه، والنضال المشترك دونه.

بيد انه من المهم والحيوي: الادراك الفكري والسياسي المبرمج والفاعل: ان المصالح ليست محض (ارقام جافة) مبتوتة الصلة بما يحرسها ويستديمها ويعلي شأنها، اي بما هو انساني، وبما هو اخلاقي.

فـ (الخلق) ليس مجرد فضيلة دينية تؤهل صاحبها لارقى الدرجات في الجنة، بل هو ـ كذلك ـ (منفعة دنيوية عاجلة) لا تستقيم الحياة الدنيا إلا بمقادير جزيلة منه.. ولنضرب مثلين بخلقي: الصدق والامانة.. فالطبيب لا بد ان يصدق مع مراجعيه ومرضاه. لأنه لو كذب عليهم: انهارت مهنة الطب انهيارا تاما. وشركات الطيران لا بد ان تصدق مع المسافرين في مواعيد المغادرة والوصول، ولو كذبت عليهم: لما تعاملوا معها، ولفقدت هي مصداقيتها، ولخسرت دوما، وما ربحت قط.. وبالنسبة لخلق الامانة، فإنه (ضرورة حياتية) لا تنتظم حياة الناس إلا بها. ولذلك عدّ القرآن: الامانة خلقا انسانيا. وشهد لغير المسلمين، او لفريق من اليهود بالامانة: «ومن اهل الكتاب من إن تأمنه بقنطار يؤده اليك».. ومنذ قليل وجهت سلطات أمن امريكية: التهمة الى موظف في وزارة الدفاع ذي علاقة بالمنظمة اليهودية (ايباك).. وسبب الاتهام هو (خيانة) الامانة باختراق (أمن معلومات) البنتاجون، وتسريب اسرار الى طرف ثالث: ممنوع ان يطلع عليها.

ولما كانت الاخلاق (ضرورية) في رعاية المصالح المشتركة وضمانها والحرص عليها، فقد الزم الاسلام: المسلمين بها أبدا في التعامل الَبْينيّ، وفي تعاملهم مع غير المسلمين: افرادا كانوا أو دولا.

نقرأ في القرآن:

1 ـ «واوفوا بعهد الله اذا عاهدتم».

2 ـ «واوفوا بالعهد إن العهد كان مسؤولا».

3 ـ «إنما يتذكر اولو الالباب. الذين يوفون بعهد الله ولا ينقضون الميثاق».

4 ـ «فليؤد الذي ائتمن امانته وليتق الله ربه».

5 ـ «والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون».. يقول النووي ـ في شرح مسلم ـ: «والعهد لفظ عام لجميع ما يعقد باللسان ويلتزمه الانسان من بيع او صلة او مواثقة».. وفي تفسير قول الله تعالى: «واتقوا الله الذي تساءلون به والارحام». قال عدد من المفسرين: «تساءلون بالله، اي تتعاقدون وتتعاهدون باسمه».. وهذا توثيق اخلاقي انساني قوي ورفيع للمعاهدات والاتفاقات المصلحية المتبادلة.. فمن تعريفات المعاهدة في القانون الدولي انها «اتفاق بين دولتين او اكثر لتنظيم العلاقة بينها».. والتنظيم القانوني لا يتناقض مع (الضمانات الاخلاقية). بل ان هذه الضمانات تعزز التنظيم القانوني وترفده بما يرسخه ويرويه ويبقيه.. وتاريخ البشرية وواقعها شاهدان على ان الضعف او (الانتكاس الاخلاقي): دمر العلاقات القانونية والسياسية بين الدول.

ولقد كانت هناك اسباب كثيرة لمتانة العلاقة بين السعودية والولايات المتحدة، ولكن هناك سببا عميقا واساسا: ينبغي ان يكتشف او يكثف الضوء حول مكانته وقيمته وتحليله وتفسيره.. وهذا السبب هو (العنصر الأخلاقي).. فمنذ البدء كان الملك عبد العزيز يقيم علاقته مع الدول الاخرى على (أساس أخلاقي) من الناحيتين: التطبيقية والمنهجية:

أ ـ من حيث التطبيق: انتهى التفاهم بين الملك عبد العزيز والامام يحيى: امام اليمن، الى الاتفاق على التحكيم. وفُوِّض الامام يحيى في اختيار الحَكَم.. وكانت المفاجأة ان اختار الامام يحيى: الملك عبد العزيز حكما.. وهذا شيء نادر الحدوث في عالم السياسة، لكن الامام يحيى كان (يثق) بأخلاق الملك عبد العزيز، على الرغم من النزاع السياسي بينهما.

ب ـ ومن حيث المنهج، يقول الملك عبد العزيز: «ان للدول الاجنبية المحترمة علينا حقوقنا، ولنا عليها حقوق. لهم علينا ان نفي لهم بجميع ما يكون بيننا وبينهم من العهود (إن العهد كان مسؤولا). وان المسلم العربي يشين بدينه وشرفه ان يخفر عهدا او ينقض وعدا، وان الصدق اهم ما نحافظ عليه. وان علينا ان نحافظ على مصالح الاجانب، ومصالح رعاياهم المشروعة، محافظتنا على انفسنا ورعايانا، بشرط ألا تكون تلك المصالح ماسة باستقلال البلاد الديني او الدنيوي.. تلك حقوق يجب علينا مراعاتها واحترامها، وسنحافظ عليها ما حيينا ان شاء الله.

وان حقوقنا على الدول. ففيما يتعلق بهذه الديار، نطلب منهم ان يسهلوا السبل الى هذه الديار المقدسة: للحجاج والزوار والتجار الوافدين. ثم ان لنا عليهم حقوقا فوق هذا كله وهو: اهم شيء يهمنا مراعاته، وذلك ان لنا في الديار النائية والقصية اخوانا من المسلمين، ومن العرب، نطلب مراعاتهم، وحفظ حقوقهم، فإن المسلم اخو المسلم، يحنو عليه كما يحنو على نفسه في اي مكان كان. واني أؤكد لكم بأن المسلمين عموما، والعرب خصوصا كالارض الطيبة كلما نزل عليها المطر انبتت نباتا حسنا. والمطر الذي نطلبه هو الافعال الجميلة من الحكومات التي لها علاقة بالبلاد التي يسكنها اخواننا من العرب ومن المسلمين. وان الارض الطيبة هم المسلمون. ولي الامل الوطيد في ان الحكومات المحترمة ذات العلاقة بالبلاد الاسلامية والعربية، لا تدخر وسعا في اداء ما للعرب والمسلمين من الحقوق، أسأل الله ان يجعل افعالنا اصدق من اقوالنا». هذه وثيقة (سياسية).. نعم.. وهي كذلك (وثيقة اخلاقية انسانية) ترقى بالسياسة، وبالمصالح المشتركة مرتقى اخلاقيا دافئا ونبيلا وجميلا.. وكما يلحظ كل ذي نباهة: فقد نقل الملك عبد العزيز علاقته بدول العالم ـ ومن بينها الولايات المتحدة ـ الى (أفق حضاري) يصلح اطارا واسعا وقويا لتنمية المصالح المتبادلة وحراستها.. ثم ان شؤون الامة العربية الاسلامية كانت حاضرة في تفكيره وهو يهندس علاقة المملكة العربية السعودية بالعالم: على دعائم اخلاقية.

ومن الخلق: ان نحب للولايات المتحدة الخير، وان نزجي اليها النصح بما ينفعها، وينفعنا، وينفع العالم كله.

ومن هذا النصح الاخلاقي التطوعي: ان نرى الولايات المتحدة ـ وقد تحسنت صورتها ـ من خلال السياق السياسي الحضاري التالي:

أ ـ تتقدم الولايات المتحدة بتقدم العالم، لا على انقاضه.

ب ـ ان الولايات المتحدة (نموذج حي للتعددية العرقية والدينية والثقافية)، وستستصحب هذا النموذج في تعاملها مع العالم. فلا تعادي عرقا، ولا ثقافة، ولا دينا لاي أمة من الامم.

ج ـ سياسة الولايات المتحدة الخارجية تقوم على (الاعجاب بالنموذج)، لا على التخويف به، ولا على القهر على تقليده.

د ـ الولايات المتحدة تريد اصدقاء احرارا في العالم يتبادلون معها الرأي والمشورة في الشؤون الدولية، وقد يختلفون معها اختلافا موضوعيا، ولكنها لا تريد اتباعا عبيدا يشاطرونها افكارها.

هـ ـ التزام الولايات المتحدة بالمواثيق والعهود الدولية يرتقي ـ قانونيا واخلاقيا ـ الى مرتبة الالتزام بالدستور الامريكي نفسه. فكما ان دستورنا ينظم علاقتنا في جمهوريتنا، فإن المواثيق والقوانين الدولية تنظم علاقتنا بدول العالم وأممه.

و ـ خفض الكراهية للولايات المتحدة في العالم الى ادنى مستوى مستطاع: امر ممكن من خلال التعرف على اسباب هذه الكراهية ومعالجة هذه الاسباب بعلم، ونزاهة، وبجهد مشترك.

ز ـ بناء عالم جديد ـ وهذه مهمة مستقبلة لا بد منها ـ تحتاج الى جهود الحضارات البشرية كافة، لا الى جهود الحضارة الامريكية وحدها.

ومن الخلق ـ كذلك ـ: ان نجرد الكلام من الانتهازية الموسمية او الآنية، فقبل ثلاثة عشر عاما، كتبنا في هذا المكان نقول: «الولايات المتحدة ممتنعة عن الاقتناع بنظرية ان الاسلام هو العدو، ونأمل استمرار هذا الامتناع: تقريرا موضوعيا لمصالحها، ولأن الاسلام لم يؤذ هذه المصالح في يوم من الايام وينبغي تنظيم حوار جدي ورفيع يحمي مصالح الطرفين من جنون الغلاة هنا وهناك.