أحزان يوم الصحافة العالمي..!

TT

يوم الصحافة العالمي هذا العام حمل احزانا وهموما أكثر من خيبة الأمل المعتادة في كل عام. عدد زملاء المهنة الذين سقطوا في ساحة الشرف كان الأعلى في عقد، ثلاثة وخمسون اصبحوا أربعة وخمسين...!

فقد اسلم الزميل الكبير محمود عطا الله الروح في اجواء يوم الصحافة العالمي وهو لا يزال ممسكا بالقلم. ترجل فارس الكلمة عن جواده، دقائق بعد ترأسه اجتماع التحرير الصباحي لجريدة ايلاف الالكترونية، ليدق قلبه البشوش المرح نبضته الأخيرة ولوحة الكمبيوتر لا تزال تحمل دفء اصابعه المحترقة، ليمنح يوم الصحافة العالمي هذا العام ابعادا حزينة مهنية وشخصية وذكريات لا تزال تقطر دمعا وانتم تقرأون هذه السطور، خاصة وان بعض زملاء رحلة العمر، لم يستطيعوا حضور الجنازة يوم الأربعاء لبقائهم في مواقع ادارة التحرير او خارج بريطانيا.

تركنا الأستاذ عطا الله نرثي الحال الذي وصلت اليه «صاحبة الجلالة» التي «تبهدلت» على المستوى العالمي. رقابة الديكتاتوريات وتكبيل الحريات والاعتداءات ـ واخرها من سيدة كينيا الاولى، لوسي كيباكي، السليطة اللسان، باقتحامها صالة اخبار صحيفة ذي نيشين في نيروبي. صحافة العالم الحر تتعرض لهجمات اغنياء الحرب ومليونيرات الجهل الذين وضع الزمن الغادر صحفا عريقة على قائمة مقتنياتهم، فأداروها بعقلية البقال الذي «يخنصر» من قطعة الجبن بعد وزنها، فأحالوا المحترفين للتقاعد توفيرا للنفقات.

ومن المحيط الى الخليج، إما أن يتعرض الصحفيون لاعتداءات واختطاف بلطجية الحزب الواحد واحزاب الأغلبية «بالعافية»، او تنشغل اجهزة الأمن بتلفيق التهم لهم، بدلا من متابعة المرتشين ومهربي المخدرات والسلاح، الذين اصبح بعضهم من اصحاب الصحف والقنوات التلفزيونية.

كررنا هذا العام، البكاء على تدهور مستوى المهنة وتناقص المعرفة لدى الجيل الجديد، وتزايد تسلل الدخلاء على المهنة، من وكلاء ووكيلات العلاقات العامة ومتعهدي ومتعهدات الحفلات ـ من الجنسين، فنحن في عصر المساواة. ونكتشف ان نداء العام الماضي، وما سبقه، بميثاق شرف تطوعي بحماية المهنة كان اذانا في مالطة.

لم تتم فرحتنا بصدور مئات الصحف في العراق، دون رقيب، بعد ان سقط هناك 19 صحفيا، اغلبهم بنيران الأمريكيين «الصديقة» او نتيجة حماقتهم ـ فهم كالثور الأعمى في محل الخزف ـ والباقي برصاص الارهابيين او سيوفهم لمجرد التباهي على شاشة الجزيرة.

تأثير السياسة الأمريكية على الصحافة يشبه تأثير السجائر على صحة المدخنين. وبجانب تعريض حياة الصحفيين للخطر، مباشر او غير مباشر، فإمكانياتهم واموالهم ساهمت مباشرة في تدني مستوى المهنة. بديهي ان الصحافة الحرة، ـ شريطة عودة مستواها المهني الى ما قبل تأميم العسكر للصحافة في مصر ـ أهم دعامة لمشروع الديموقراطية والإصلاح الذي صدعنا به الرئيس جورج بوش، وجوقة رامسفيلد، وتشيني، وابنته ليز.

لكن مشاريع مثل قناة الحرة، او التهريج الدون كيشوتي المسمى اعلام الوصول للأطراف البعيدة Media Outreach تقوض الدعامة الأهم لدعوة بوش الويلسونية، بتحطيم القائمين على هذه المشاريع لأهم قواعد المهنة.

واصابت دينا مقلد هذا الأسبوع بقولها في مقالها بالشرق الاوسط إن قناة الحرة هي مأزق مهني اولا.

وفر الكونغرس للحرة امكانيات مادية وتقنية تحسدها عليها قنوات تعمل بأقل من 10% من امكانياتها، وتقدم برامج اخبارية بمستوى يفوق بعشرة اضعاف مستوى الحرة .

قضيت عقوبة انفرادية في غرفتي الفندقية، في الشهر الماضي، لمتابعة نشرات قناة الحرة بدقة. ومثلما تقول السيدة مقلد، لا شاغل للحرة سوى افغانستان والعراق، باعتبارهما فاترينة «نجاح» السياسة الخارجية الأمريكية ـ رجاء عدم القهقهة بصوت عال اذا كنت تقرأ الجريدة في مكان عام.

ورغم ترحيب العراقيين بمراسليها وتوفير الإمكانيات لهم، فإن المستوى المهني لتقارير الحرة ادنى من مستوى تلميذ يستحق «الرفت» من سنة اولى صحافة.

تابعت نشرات انتخاب البرلمان العراقي للرئيس جلال طالباني، وبعدها ترشيحات الدكتور الجعفري للوزارة. الصور مملة التقطت بلا حساسية، ومونتاج التقطيع ينم عن اهمال يضرب عرض الحائط بأبسط قواعد الصحافة التلفزيونية، بأن الكاميرا امتداد للعين البشرية المتابعة للموضوع، وسرد القصة او تعليقات الضيوف تعاكس قاعدة دورها كتسليط الضوء على الزوايا المعتمة للفكرة.

تتابع تقريران عن مشاورات الجعفري لتشكيل الوزارة، استخدما الصور نفسها «كفوتو كوبي» تلفزيونية، لكن بسرد كلمات مختلفة، بينما غابت رسوم الجرافيكس التوضيحية والخرائط، خاصة عند ذكر التركيبات العرقية او الاشارة لمناطق جغرافية لا يعرفها غير العراقيين.

الأزمة الأعمق هي فساد السياسة الأمريكية نفسها، فصوت المطرب العذب لا يشفع لنشاز اللحن، وتفاهة الكلمات، ذات المعنى المهين احيانا. ولعب شريط لأم كلثوم من الحان السنباطي في مطعم لن يغير طعم الوجبة الفاسدة.

والأكثر عمقا فقدان مفهوم المهنة. فإذا اخترت العلاج عند طبيب الأسنان، بدل الأخصائي، لتخفي ابتسامتك الجذابة، الألم الحاد في كبدك; فهل تلوم طبيب الأسنان وانت على فراش الموت؟

راسمو الاستراتيجية الإعلامية لقناة الحرة ، مثل خبير تجميل الأسنان (بلا مؤهلات خلع الضرس) لتكون ابتسامة امريكا، التي عجز كبد سياستها عن العمل، أكثر اغراء وجاذبية.

«قل من رفاقك واصدقائك، اقول لك من انت». واذكر دردشة الهوانم في صالون الشاي في زمن التحضر قبل نصف قرن في الاسكندرية، متناولات سيرة شابات مرشحات، للدكتور «.....» ابن اعتدال هانم، او المحامي «...» ابن حورية هانم; ثم تكشيرة الجباه، وضم الشفاة استنكارا عند استبعاد احد الأسماء: «لآ لآ لآ، يا فلانة، هانم، البنت صوتها عالي، ولبسها صارخ، وماكياجها فالجير ...» ثم يصدر الحكم القاسي «دي حرة زيادة عن اللزوم».

وقد تكون «المرفوضة»، عذراء بريئة، تبهرجها ومكياجها الصارخ، وتصرفاتها الحمقاء، و«شلة» الأصدقاء، وصمتها بسمعة «الحرة» زيادة عن اللزوم التي حرمتها الزواج من الدكتور او المحامي المحترم.

ولا اعرف اذا كانت «حرة» امريكا بريئة ومظلومة، لكن «الشلة» المحيطة بها، وتبهرجها وبضاعتها الفاسدة، تدفع العائلات المحترمة من بلاد التقاليد العريقة، كأوروبا القديمة، والشرق الأوسط، وشبه القارة الهندية، الى التبرؤ منها ومنع الأولاد والبنات من الاختلاط بها.