«حدائق الموت»

TT

في الأسبوع الماضي، في كل مرة كنت أرى صبية محجبة وشابا بجانبها يتجاذبان أطراف حديثٍ باسمٍ وهما يتناولان «الترمس» على ضفاف النيل في القاهرة، يتبادر إلى ذهني سؤال تقليدي: ما الذي منع «إيهاب يسري» الإرهابي الشاب الذي فجر نفسه أخيراً في حي السيدة عائشة، وخطيبته التي انتحرت وهي تحاول إيذاء السياح في مكان آخر من القاهرة.. ما الذي منعهما من أن يكونا بذات البساطة في الحياة؟ ما الذي منعهما من إنهاء حديث باسم على النيل ينتهي بنظرة متفائلة للمستقبل؟

الأجوبة مبهمة وحائرة بدورها لدى الشبان المصريين أنفسهم، والأسباب من جانبهم تعددت. يقول محسن وهو طالب جامعي «الظروف الاقتصادية عامل حاسم في أفعال من هذا النوع. الشاب المصري أصبح محبطاً يائساً». ويضيف «نحن نتعب ونشقى على لا شيء. المستقبل غامض والوضع غير مريح».

ويشاركه إيهاب «الشبان للأسف يجدون من يستغل إحباطهم ويشحن طاقاتهم بشكل سلبي، يؤدي إلى هذا النوع من الأعمال المرفوضة بالقطع. نحن محبطون نعم، ولكن يجب ألا تصل المسألة إلى إيذاء الأرواح البريئة».

الشبان تحدثوا عن أهمية الإصلاح الاقتصادي والتعليمي وتحسين مستوى المعيشة وإتاحة الحريات الكافية لمنع شباب آخرين عن الإقدام على نفس العمل. أتفهم بدوري كشاب إحباط الشبان المصريين، ولكن شيئا من التمعن سيبرز أن الحلول التي أعلنها الشبان ليست سوى انعكاسات نفسية وأمنيات يتمنون أن تدفع الأحداث في اتجاهها.

فايهاب يسري لم يكن من ضمن «أجندته» التي فجر نفسه من اجلها الإصلاح السياسي، أو الديمقراطية، وتحسين مستوى المعيشة. ولكن هدفه الواضح إيذاء السياح الأجانب الذين هم سبب رزق لكثير من العوائل المصرية بما يدرونه من أموال. وشقيقته وخطيبته الإنتحاريتان قتلتا وهما تحاولان مهاجمة باص للسياح، ولم تقتلا وهما تحاولان إبداء رأيهما في الميدان العام.

تقول «فاطمة» طالبة الإعلام: «الفتاتان ضحيتان للإعلام الذي يروج لعظم منزلة الشهداء والشهيدات في كل مكان، والإعلام الذي ما فتئ يروج أننا عالم مستهدف من الغرب وأميركا ولا بد من محاربتهم. عمر إيهاب وخطيبته وشقيقته لم يتجاوز العشرين، أي قدر من الحياة عاشوه ليعلموا كل هذا عن الدين».

فيما رأت مروة العكس وقالت «أنا اكره أميركا، وأصر أننا مستهدفون». غير أن مروة لم تقدم نموذجاً واحداً لهذا الاستهداف.

الاستهداف الحقيقي للشبان المصريين من الداخل. من الجماعات التي تتاجر بإحباط ولقمة عيش الشباب. وتحرمهم التمتع بربيع أعمارهم، وتوزع عليهم المراتب في الجنة على مزاجها. وجولة واحدة في أحدى كليات القاهرة الخاصة ستفاجئ الزائر بحجم الملصقات وأشرطة الكاسيت التحريضية فيها. فملصق يتحدث عن أن «الحجاب..الطريق إلى الجنة».. وشريط يتحدث بإسهاب عن «لماذا اللحية؟» وآخر عن «حدائق الموت».. وآخر عن «الحب والجنس والاختلاط».. والأخير عن «الموت والحياة».

وبالعودة للأسباب التي رآها الشبان المصريون خلف إيهاب، بدت مجموعة كبيرة نسبياً ترى أن أميركا وراء ما حدث «لإثارة البلبلة والانقضاض على مصر مثل العراق»، حسب اعتقاد أصحاب هذا الرأي. و«محسن» العشريني الذي كان يهز رأسه بتأييد كبير لهذه الفكرة لم ينف رغبته الحقيقية في السفر لأميركا لإكمال دراسته.. وأضاف «وإذا أردت الصراحة سأسعى للحصول على جنسيتها». وليس لدي تعليق على تناقض محسن الذي لا أفهمه، خصوصاً أنه هو أيضاً لا يملك التعليق.

منطقة الشرق الأوسط بكل دولها تثير أسئلة لا بد من البحث لها عن إجابة، مثل: لماذا هذه المنطقة وحدها من دون غيرها تفرز هذا الحجم من الراغبين في الموت؟ ولماذا يرى الشبان في هذه البقعة من الأرض أن الموت من أجل معتقداتهم أجدى من العيش للدفاع عنها ؟

خلال حديثي مع شبان مصريين في منطقة الحسين الشعبية، مرت فرقة فلكورية تغني أغاني مصرية شعبية، تفاعل معها الحضور بشكل لافت، وكانت تقول «على الحلاوة حلاوة (..) دحنا ناس غلابة». المصريون ليسوا «غلابة» ولكنهم شعب يعشق الحياة. ولا أدل من ذلك الاكتظاظ الهائل الذي شهدته القاهرة من المصريين المحتفلين بـ«شم النسيم» غداة التفجير الآثم بيوم واحد فقط. إذن من أين يأتي هؤلاء الراغبون في موتهم، وموت الآخرين معهم؟

* مقال يتناول آراء الشباب حول قضايا الساعة

[email protected]