في كل مرة أتلقى دعوة للعشاء مع ضيوف مصر الكبار: الملوك والرؤساء في قصر عابدين، الذي هو صورة مصغرة أنيقة من قصر فرساي في باريس، يضايقني الطعام وشكل الرغيف، وأتمنى، ولكن لا أعرف وان كان هناك سبب وجيه لذلك.
ولا أعرف إذا شكوت فمن الذي يرضى ومن الذي يغضب، وأكثر ما كان يضايقني في هذه الولائم رفيعة المستوى هو شكل الرغيف المصري، فلا هو أبيض ولا هو أسمر، ولا هو من القمح ولا هو من الذرة، ولا هو مربع ولا هو مستدير ولا هو مستطيل، ولكن له شكل، وشكله لا يدخل هذه المعادلات الهندسية، ان له شكلاً فريداً، منفرداً من كل أنواع الأرغفة في الدنيا، ربما كان في ذلك حكمة، وهذه الحكمة آمن بها المسؤول عن اطعام الملوك والرؤساء.
وفي يوم، وكان الضيف هو الرئيس الفرنسي جيسكار دستان، فانتظرت إلى أن أجد الرغيف أمامي، شكله فظيع، وترددت: أقول ما أقولش، أقول لمن؟ للرئيس مبارك، يصح أو لا يصح، وخاصة أن سيادة اللواء المسؤول عن الطعام قال لي: ان الرئيس يحب هذا النوع من الخبز الريفي؟!
وفكرت، فقد لاحظت أن قائمة الطعام مكتوب عليها تاريخ قصر عابدين ومن الذي بناه وفي عهد أي من حكام مصر، واقترحت لكي نخرج من هذا المأزق، مأزق الرغيف الذي لا شكل له ولا لون ولا ضرورة، إذا كيف نقدم هذا الرغيف لرجل تصنع بلاده مائتي نوع من الخبز والكروسان والباتيه وأسماء وأشكالا وطعوما وروائح عديدة ، فكرت ، ووجدت الحل.
اقترحت أن يبقى الرغيف على ما هو عليه، وممكن أن يكون أسوأ، لا يهم، وأن نعلق في كل رغيف ورقة صغيرة مكتوب عليها: ان هذا الرغيف هو صورة طبق الأصل من الرغيف الذي كانت تأكله بلذة وشهية مفتوحة الملكة نفرتيتي!
حل، ولكن هل صحيح علمياً؟ وهل من الممكن أن نضحك على الفرنسيين الذين بهرونا وعلمونا تاريخ الحضارة المصرية القديمة، ولم يجدوا في كل الذي اكتشفوه وعلمونا اياه رغيفاً بهذا الشكل.
ومنذ أيام دعيت إلى العشاء في قصر عابدين على شرف الرئيس الروسي بوتين، ولما جلست إلى الطعام جاءت الأطباق فخمة في غاية الشياكة: الاستاكوزا والجمبري والسومون.. وجاءت بعد ذلك اللحوم في شكل بديع، وأمامي سلة صغيرة بها كل أنواع الخبز، والرغيف المصري قد قطعوه إلى أربعة أقسام وبذلك اختفى التربيع والاستدارة والاستطالة ـ أي أن هناك اصراراً على الرغيف إياه، ولكن مع هذه الأشكال الأحسن من الأرغفة، ضاعت معالم الرغيف المصري، ولكن لاحظت أن جاري، وهو نائب وزير الخارجية الروسي قد ترك كل هذه الأرغفة وامتدت يده إلى الرغيف المصري، وأكله بلذة، وسألته: أعجبك فقال: جدا، اننا لا نجد في طعامنا أي طعم ولا أي لذة، ان هذا الرغيف تحفة في شكله التلقائي ورائحته النفاذة!
وسألت ان كان يريد عدداً من هذه الأرغفة فأسعده السؤال، وأسعدتني هذه الرغبة القوية!
وأذكر أن الوفود الرسمية الأميركية التي ذاقت طعم الفطير (المشلتت) المصري تطلبه كلما جاءت إلى مصر، والفطير المشلتت متفوق على الرغيف في أنه من طبقات بعضها فوق بعض، وكل طبقة لها شكل وحجم، وفي ذلك كل اللذة والمتعة، يعني إيه؟
يعني أطبق شفتي وأسكت، وقد سكت!