المشفوح الأوحد

TT

كان ساشا غيتري في آخر أيام مرضه الذي أدى إلى وفاته، وعلى رغم ذلك فإنه وافق على استقبال صحافي شاب. فبادر الصحافي إلى الاعتذار عما يسببه من إزعاج وقال بصوت خافت: «اعرف يا سيدي إن لحظاتك ثمينة».

فقاطعه غيتري قائلا وهو يهز رأسه نفيا: «كلا يا صديقي. ليست المشكلة في إن لحظاتي ثمينة... وإنما المشكلة في أنها معدودة».

لا ادري من هو مستر (غيتري) هذا، ولكن لا بد انه وقتها كان يشار له بالبنان، وإلا ما كان يتهافت على عيادته الصحافيون.. ولكنني متأكد الآن أن عظامه أصبحت (رميم الرميم)، وليس رميما فقط.

غير أن كلامه بصراحة أعجبني، المشكلة مثلما قال: أن لحظات العمر معدودة ـ هذا إذا كان الإنسان (كالبغل) بكامل عافيته ـ، فكيف إذا كان طريحا على فراش المرض أو الموت؟!.

يا ليت الأيام الخوالي تعود بكل تفاهاتها، لأتلذذ بتلك التفاهات أكثر ولا اشطب ولا واحدة منها، بل وأتفنن وأزيد عليها ولا احذر ولا اعتذر ولا أقول: (دستور).

(هاتوها) لي لو تستطيعون، امسكوني (بخطامها)، اركبوني على (صهوتها)، اتركوني أصارع الزمان عكسياً، افسحوا لي الطريق كي اعبر حاجز الخوف و(الطلاسم)، لا تشفقوا عليَّ ولا تترحموا كثيراً، وتدافعوا انتم وحدكم على قصعة الدنيا لتأكلوها بما فيها مثلما يأكل الجراد نماء الحياة.

ولكن مالي وما لتفتيح الجراح، فكل إنسان فيه ما يكفيه، وفيَ ما يكفيني ويزيد (حبتين)، ولكنني مع ذلك سوف استمر في هذه اللعبة المضحكة التي يقال لها الحياة.. ألم يذكر المولى عز وجل: انها لعب ولهو؟! إذن أنا لم ابتعد كثيراً، وعسى إن تكون خاتمتي مشرفة، وعلى مستوى من الخلق، والروح الرياضية.. لا أريد أن أكون نموذجا يحتذى به، فهذا بعيد جداً عن (شواربي)، وشوارب كل من أراد أن (يحتذى)، لأنه ليس من طبعي، ولا من طموحي ولا من أمنياتي أن يتحول التراب بين أصابعي إلى ذهب أو الفحم إلى الماس أو تترامى كل (اكسسوارات) النساء تحت أقدامي أو تهتف كل (ببغاوات) العالم باسمي.

فأنا (هلوع) حقا، وإذا مسني الضر (جزوع) جدا جدا، غير أنني أحاول بقدر طاقتي ألا أمنع فعل الخير عن احد، حتى لو كان من غير ملتي، وأقسم بالله انه لو كان في يدي رغيف خبز واحد لقسمته نصفين بالتساوي بيني وبين أي جائع فلتان، على شرط إن أتأكد انه جائع فعلا، أما إذا كان غير ذلك فسوف آكل الرغيف وحدي بتلذذ مع قليل من الزيتون إذا أمكن.

ليس لي علم بالأيام المقبلة، هل تطول أم تقصر؟! ولكن أياً كانت دقات ساعاتها، فدقات قلبي أسرع منها بمراحل، وستلتف عليها وتحاصرها، بل وسوف تغتصبها اغتصاباً، ولن تتركها تفلت منها أو تبتعد عن (كلبشتها) ولا مقدار شبر واحد.. أن ما أمارسه في هذا الوقت يسمى: (شفاحة الحياة).. وأنا (المشفوح الأوحد) ـ ولا فخر ـ