التهدئة أم السلام..؟

TT

ماذا حدث بعد 8 شباط 2005، حين أعلن الرئيس الفلسطيني محمود عبّاس خلال قمّة شرم الشيخ التي جمعته مع شارون، وقفاً للعمليات المسلحة وتعهدت الفصائل الفلسطينية المسلحة بالالتزام بفترة «تهدئة» غير رسمية في العمليات ضد إسرائيل؟ استمرت قوات شارون بقتل المدنيين العزّل، بمن فيهم فتية يلعبون كرة القدم، وشباب يكافحون من أجل الحرية. وآخر ما حدث هو أن الشابين الفلسطينيين عدي وجمال عاصي، قُتِلا برصاص الجنود الإسرائيليين في قرية بيت لقيا جنوب غربي رام الله، لأنهما خرجا في مظاهرة احتجاج ضد بناء الجدار الفاصل، الذي يصادر اراضيهم ويقتلعهم من ديارهم. وقبل أيام جرح فلسطينيون و إسرائيليون كانوا يتظاهرون سوية ضد اقتلاع الجيش الإسرائيلي لأشجار الزيتون، كي يبنوا مكان أشجار الزيتون جدار فصل عنصري، وقبل ذلك اجتاحت الدبابات الإسرائيلية مدنا عدة وقتلت من شاءت وانسحبت حين رأت ذلك مناسباً لها ولقوات احتلالها.

هذا إذا لم نذكر التنكيل اليومي والاختطاف والسجن الذي تقوم به قوات الاحتلال الإسرائيلية ضد المدنيين الفلسطينيين، فقد اعتقلت قوات الاحتلال العشرات منذ تلك «التهدئة»، ووضعتهم خلف قضبان السجون الإسرائيلية، المعروفة بانتشار التعذيب فيها، وذلك لأنهم «ناشطون» ضد الاحتلال والإذلال. كما تمنع قوات الاحتلال الفلسطينيين من أداء الصلاة ويهدّد المتطرفون بالاعتداء على المسجد الأقصى وها هم يسرّبون أخباراً عن خطط لتهويد القدس في عام 2020.

وعلى المستوى السياسي أعادت قمة الجزائر عرض الدول العربية مجتمعة صنع السلام مع إسرائيل، إذا ما انسحبت إسرائيل إلى خط 4 حزيران 1967، ولكنّ شارون استمر في رفض هذا العرض كما عروض السلام جميعها، كما أن إسرائيل اعترضت على اقتراح الرئيس الروسي بوتين عقد مؤتمر دولي للسلام وكانت النتيجة أن سحب هذا العرض.

والسؤال هو: لماذا تريد إسرائيل «التهدئة» مع حماس وترفض السلام مع جيرانها؟ ولماذا تعترض على كل اقتراح أو خطة لتحقيق السلام يمكن أن تقود إلى حلول عادلة و شاملة للصراع العربي ـ الإسرائيلي؟ هل المطلوب هو «التهدئة» كي تتمكن قوات الاحتلال الإسرائيلي من استكمال بناء جدار الفصل العنصري، وبناء وحدات استيطانية جديدة تستقدم مستوطنين من بلدان أخرى ليحلوا محلّ الشعب الفلسطيني، وهل المطلوب هو «التهدئة» من أجل استكمال إجراءات تهويد القدس؟ وهل الضجّة التي تُثَار حول الانسحاب من غزة وتأجيل مرحلة هذا الانسحاب وإفراغه من مضمونه تهدف فقط إلى تحقيق كلّ هذه الأهداف وكأن شارون يريد السلام في الوقت الذي يتخذ به أعتى الإجراءات لابتلاع الضفة والقدس وحقوق اللاجئين الفلسطينيين؟ هل الاستمرار في قتل الشباب الفلسطيني والتنكيل بالشعب الفلسطيني جزء من الثمن الذي على الفلسطينيين أن يدفعوه كي يتيحوا لشارون وقواته المضي في خططهم لابتلاع ما تبقى من فلسطين بحجة الانسحاب من غزة، والمراقب اليوم للصحافة العالمية يلاحظ أن العديدين بدأوا يستخدمون غزّة بدلاً من فلسطين فهل هذا هو المخطط بينما يوهم العرب أنفسهم بالتزامات دولية وأحاديث معسولة عن دولة فلسطينية نشهد جميعاً خططاً، وإجراءات منتظمة وحثيثة لمنع تأسيس هذه الدولة في المستقبل المنظور.

إن الخطط والإجراءات الإسرائيلية هذه تعتمد على ركائز أساسية في الإعلام والدبلوماسية العامة والتعامل مع العرب الذين يؤمنون بحق شعب فلسطين بالحرية والاستقلال. فعلى المستوى الإعلامي تركز على «تهدئة» بدلاً من «السلام»، وعلى نبذ الطرفين للعنف (نظرياً) بينما تستمر قوات الاحتلال بممارسة أسوأ أنواع العنف والقتل ضدّ الشعب الفلسطيني الأعزل، وعلى الحديث عن انسحاب من غزّة وتأجيل هذا الانسحاب بينما تستكمل بناء جدار الفصل العنصري، وتصادر الأراضي الفلسطينية وتستكمل إجراءات تهويد القدس. وفي الدبلوماسية العامة ترمي إسرائيل الرماد في العيون فيزور وزير خارجية إسرائيل مصر ويقترح خريطة طريق للتطبيع مع الدول العربية، ومن ثمّ يزور موريتانيا بينما تعمل السفارات والمبعوثون الإسرائيليون يومياً في شتى أنحاء العالم لإقناعه أن إسرائيل جادّة في سعيها «للسلام»، ولكنها تعاني من إرهاب وانعدام أمن مواطنيها، وترصد من أجل ذلك الميزانيات السخيّة، وتؤهّل الكوادر القادرة على القيام بهذه المهمّة. وفي العلاقات مع العرب تطلق أخباراً أو معلومات تزيد العرب إحباطاً ويأساً وتفتت جهودهم وتسلط الأضواء على الحدود بين سوريا ولبنان وعلى إلغاء العلاقة بين سوريا والعراق، بالحديث عن تسلل «الأجانب» عبر الحدود. وتحرِّض دوماً على ضرب العلاقة بين سوريا والأردن، وتبث أكاذيب لوصم العرب بالإرهاب مثل فرقة موسيقية سورية اتُهِمَت بالارهاب وإلى ما هنالك من أخبار، تهدف إلى خلق الفرقة والشكوك بين الاشقاء و تصوير المحتلّ والقاتل والعنصري وكأنه نموذج «ديمقراطي» لهذه المنطقة. والحلّ يبدأ بأن يمارس العرب ذكاءهم الفطري المعروف باللغة والأدب والعلوم أولاً، فيرفضون اللغة التي تمّ تصميمها لخدمة أغراض أعدائهم ويميّزون بين الأخبار والافتراءات التي تُبَث عبر وسائل الإعلام من أجل تقويض حقوقهم، وينطلقون من قضاياهم ومن منظورهم بدلاً من الدوران في فلك سياسات ومخططات يرسمها الآخر. فالمطلوب اليوم العمل من أجل السلام والتركيز على رفض قادة إسرائيل لكلّ مبادرة لصنع السلام الحقيقي والدائم والشامل واستخدامهم «التهدئة» و«التطبيع» لدق أوتاد الاحتلال عميقة في قلب الأرض الفلسطينية والواقع العربي. والمطلوب من العرب أيضاً أن يخرجوا من دائرة الإحباط واليأس وأن يؤمنوا بأمتهم التي رفضت الذلّ وتفوقت على كلّ محتلّ ومستعمر في تاريخها مهما كانت قواه ساحقة، وأن يؤمنوا بحقوقهم المشروعة وفق كلّ القوانين والشرائع الدولية والدينية، وألا ييأسوا رغم جسامة العنف والإرهاب المسلط عليهم خلال هذه الفترة وألا ينخرطوا في الدوائر التي تصممها لهم مبتكرات أعدائهم، وأن يزيحوا الأضواء التي يركزها الأعداء على خلافاتهم الصغيرة ويسلطوا الأضواء حيث يجب ان يتمّ تسليطها على من يستهدفنا جميعاً في النهاية،

ويستهدف حضارتنا ولغتنا وحقوقنا. فالمشكلة ليست في دير العشائر ولا في تأثير عربي على آخر، ولكنّ المشكلة هي ان تجريد العرب من حقوقهم بما في ذلك حرمانهم من حقّ المقاومة، حتى وإن كان بالتظاهر، يهدف إلى إخراجهم من التاريخ.

المطلوب اليوم هو أن نعيد أذهان العالم للتركيز على ضرورة إرساء أسس السلام العادل والشامل في منطقتنا، وليس مراقبة حالة «التهدئة» و«التطبيع» بسلبية مطلقة يقاطعها رصاص تفرغه قوات الاحتلال برؤوس أبنائنا وفلذات أكبادنا متى شاءت.