بعد عايض القرني: ألا نراجع التراجعات..؟

TT

سيظل موضوع تراجع الدكتور عايض القرني عن فتوى الحجاب الذي أثارت زوبعته المخرجة هيفاء المنصور جديرا بالدراسة والتأمل، ولا أعني بالتحديد موضوع الحجاب، بل أقصد الأسئلة المهمة حول الجدل الذي ثار بعد هذا التراجع.

أتساءل عن قناعة الفرد بمسألة ما، أليست كافية للإفصاح عنها وإشهارها؟ أم أن هناك مسائل في الشريعة تتطلب الحكمة و(باب سد الذرائع) السكوت عنها وفي بعض الأحايين حمل صاحبها على التراجع عنها ؟ ثم إذا كان الأمر كذلك، فهل في تاريخ الفقه الإسلامي وبالتحديد بين العلماء والفقهاء شواهد تعضد هذا الأسلوب ؟ أم ان قصارى ما يحدث بينهم مهما كانت أهمية الفتوى وحساسيتها هو مقارعة الحجة بالحجة وليس ممارسة الضغوط لحمل بعضهم بعضا على التراجع دون النظر إلى القناعات ؟ ثم من يستطيع أن يضع حدودا فاصلة بين المسائل الفقهية التي يمكن الصدع بها بين الملاْ وبين التي يجب ان تكون حبيسة الصدر ولا يجوز إشهارها بين الناس؟ أطرح هذه التساؤلات وأنا أعي وأدرك جيدا كل الحجج التي سيقت في هذا الشأن وخاصة موضوع الحجاب البالغ الحساسية في السعودية، ومع أني أجد عددا من هذه الحجج وجيها وله حظ من النظر لكنه لم يصل من وجهة نظري إلى درجة الإقناع.

لو كان المعول عليه في موضوع إشهار الفتوى ـ وهذا ينسحب بالضرورة على الفكرة والرأي ـ هو في حساسيتها أو في ما يترتب عليها من مآلات لبقي كثير من الفتاوى مطمورة مجهولة ولما وصلنا هذا الإرث الضخم والمفخرة من التراث الفقهي الذي وصلنا وفيه بعض المسائل الفقهية التي أجازها عدد من كبار الفقهاء استحي ان أذكر تفاصيلها هنا، والغريب أن البعض يسميها (سقطات) !

وفي عصرنا الحاضر كان لعدد من الفقهاء الكبار فتاوى أحدثت هزات وتأثيرات في عدد من المجتمعات فلم تثن اصحابها على التراجع تحت وطأة تقدير العواقب المتوقعة والمآلات المرتقبة وتشبثوا بقناعاتهم وسلامة استدلالاتهم، فهذا سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز نفسه (مفتي السعودية الراحل) كانت له فتوى شهيرة حول الزواج بنية الطلاق أثارت جدلا ولا تزال، وتداعيات ما برحت قائمة ونوقش في هذه الفتوى وجودل، حتى أني سمعت أن مجادلته تحولت في بعض الأحيان إلى محاولة استصدار (تراجع) منه وسيقت نفس المبررات التي سيقت وتساق وستساق لغيره إلا أنه ثبت كالطود في مهب (الترجيع)، لكن في المقابل استجاب عالم جليل آخر لهذه الضغوط التراجعية حين أصدر فتوى بجواز لبس النقاب الذي لم يكن شائعا حينها في بلاده، فأخبروه ان بعض السيدات قد توسعن في لبس النقاب فأصدر فتوى أخرى بتحريمه، مع أن الأولى في حقه أن يوضح الأخطاء في الممارسات لا أن يتراجع عن حكم يعتقد في قرارة نفسه بجوازه أصلا.

التهويل من تأثير فتوى صدرت من عالم او طالب علم تخالف الاجتهاد السائد أمر مبالغ فيه فكأنما لهذا العالم رأي ولغيره من العلماء رأي مخالف، ولا يزال العلماء يخالف بعضهم بعضا حتى في المسائل الاعتقادية، ويبسط كل فريق حججه وفهمه ومستنداته والناس بعد ذلك تتولد قناعاتها من بضاعة هذا الفريق أو ذاك، فالتخويف من الاجتهادات الفردية والترهيب من تأثيراتها وتداعياتها حمل عددا من العلماء وطلبة العلم في بعض الأحيان أن يذكروا قناعاتهم همسا مع تطبيق قاعدة (هذا ليس للنشر)، وهذا في ظني ظاهرة ليست دائما صحية.

كتبت ذات مرة مقالة أشرت فيها إلى اجتهاد منسوب إلى الإمام أبي حنيفة في موضوع الزواج كان المركز الإسلامي في لندن الذي كنت أعمل فيه يتبناه ولا يزال، فتلقيت احتجاجا على المقال، وهذا أمر مقبول، ما لم يكن مقبولا هو محاولة إقناعي بنشر ما هو ضد قناعاتي. اللافت للنظر أن الاحتجاج لم يكن على تبني المركز لهذه الفتوى ولكن على نشرها مني أنا بالذات! وهذا بيت القصيد في موضوع مقالة اليوم .