أوروبا وأمريكا: الاتجار السياسي بالنفوذ

TT

الاتحاد الأوروبي هو نتيجة لعملية اندماج بدأت عام 1951 بين ست دول، لتصل بعد 54 عاما وخمس موجات من الإضافات إلى 25 دولة عضوا، ومع هذا فقد بدأت إمارات الفشل تزحف على إرادة التعاون هذه، فلكي تنجح منطقة اليورو، على أعضائها تنسيق سياسات الضرائب والإنفاق في ما بينهم، فهل السندات اليونانية مثلاً تساوي في قيمتها السندات الألمانية أو الفرنسية! إن الاحتمال الأكبر عند صعود اليورو أن ترتفع معه الفائدة الأوروبية درءاً لمخاطر التضخم، وقد تؤدي الأسعار المتزايدة الارتفاع إلى نمو في انعدام السداد، وعندها إمّا أن البنك المركزي الأوروبي سيهرول لإنقاذ الدول العاجزة عن السداد، ولا أدري إلى متى تستمر هذه الهرولة! أو أن تنحو منطقة اليورو إلى إعادة توحيد نفسها بحيث تجد الوسيلة لإزاحة الضعفاء عن الطريق. إلاّ أن الأهم من هذا وذاك هو ترقب الحدث في 29 مايو، لهذا الشهر.

ففي هذا التاريخ بالتحديد ستتجه فرنسا للتصويت في استفتاء شعبي على الدستور الأوروبي الجديد، وسط ذعر وترقب شديدين إزاء نتيجة عكسية تكون مقدمة لسيناريو فشل العملة الموحّدة. فتصويت فرنسا بـ «لا» معناه أن هناك فرصة من خمس بانهيار الاتحاد النقدي الأوروبي خلال مدة تتراوح بين خمس إلى عشر سنوات على الأكثر.

ولذا ترى الرئيس الفرنسي جاك شيراك وقد قرر الظهور الإعلامي من خلال التلفزيون الفرنسي في أول تدخل رسمي له ترويجاً للدستور الأوروبي الجديد، لتشجيع الناخبين بالتصويت، حتى لا تجد فرنسا نفسها في حالة الـ «لا» وقد فقدت ثقلها السياسي في المنطقة وأصبحت كالابن الضال لأوروبا ـ على حد قوله ـ ومع ذلك تبقى المشكلة محصورة في الفئات العمرية الشبابية والمعنية بأمورها الشخصية المؤثرة في حياتها كالوظائف والخدمات العامة، أكثر من اهتمامها بمجريات الساحة الخارجية، وهي بالذات المرجحة للتصويت ضد مشروع الدستور هذا، والذي سيؤدي في تقدير أشد المتفائلين إلى هبوط في قيمة اليورو، وإن كان من الصعب التنبؤ بمقداره.

على أية حال، وكعادة الغربيين في الاستفادة من تجاربهم، لا يجد المحللون الأوروبيون كل الشر في حالة الرفض، فقد يأتي بإعادة النظر في إصلاح سياسات الاتحاد الأوروبي تجاوباً مع احتياجات المواطن، وخاصة أن الاستفتاء لا يقتصر على مجرد التصويت، وإنما هو مؤشر للطريقة التي يتطور فيها الاتحاد، وهذا سبب أدعى لإحراج الرئيس الفرنسي، باعتبار أن فرنسا هي الدولة التي دعمت الدستور منذ إطلاق مشروعه. ومهما قيل فلا شك أن التصويت المضاد سيعطل كل المحاولات للتكامل وصهر المجموعة في بوتقة اقتصادية وسياسية واحدة، بل وسيصب في صالح الميزان الأمريكي. فالرفض لإقامة اتحاد أوروبي أوثق، وما يتبعه من إخفاق في عملته الموحدة لمن دواعي سرور الإدارة الأمريكية الساعية إلى الانفراد بالهيمنة السياسية ـ الاقتصادية في العالم، والتي لا تألو جهداً في سبيلها إلى الإضعاف من أمر هذا الاتحاد وغيره ما أمكنها ذلك، ولنأخذ أقرب مثال إلينا ـ نحن الخليجيين ـ والمتمثل في تلك الاتفاقيات الثنائية لمناطق التجارة الحرة التي أبرمتها الولايات المتحدة مع بعض دول مجلس التعاون الخليجي «منفردة»، مع أن الاتفاقية الاقتصادية لدول المجلس والموقعة عام 2001 تنص على أن تعمل الدول الأعضاء مجتمعة (وليس منفردة) ككتلة واحدة في رسم السياسة الاقتصادية، فلم لم توقع الولايات المتحدة إذن اتفاقاً شاملاً مع دول المجلس الستة بدلاً من الانفراد بكل دولة على حدة.

إن مسألة التوصل للتوقيع على اتفاقية التجارة الحرة بين الاتحاد الأوروبي ودول مجلس التعاون الخليجي، تقع ضمن منظومة شروط تقف عند إقامة اتحاد جمركي وتعرفة موحدة بين دول الخليج، وهو ما ساهم كثيراً في تأجيل التوصل لاتفاق بين الطرفين، ليعود نفس الملف في الظهور بالرغم من قيام الاتحاد الجمركي الخليجي في 2003 منذ إبرام البحرين اتفاقية منطقة التجارة الحرة، في خطوة لحقتها خطوات مماثلة من بعض دول الخليج الأخرى، لتكون سبباً مباشراً لاستياء الاتحاد الأوروبي الذي رأي في هذه الممارسات إضعافاً للتكامل الاقتصادي الخليجي، وتفكيكاً لتعاونه، وتأخيراً لمفاوضاته التجارية معه ـ دخلت عامها الثامن عشر لتصبح أطول المفاوضات الاقتصادية في العالم ـ الذي لن يقيمها الاتحاد الأوروبي إلا مع أقاليم تجارية «متّحدة»، وعليه، لا تميل المحصلة إلاّ لنفع الولايات المتحدة، فلا تتحد دول مجلس التعاون الخليجي مع الاتحاد الأوروبي، ولا يقوى الجانبان باتحادهما معاً، بل وتُخلق الفرصة المناسبة بسبب انفراد الدول الخليجية في اتفاقياتها لطرح متطلبات أوروبية إضافية تأخذ حقها من الاختلاف، وبالتالي مزيداً من الوقت والعرقلة.

فهل نقول إن الاتحاد الأوروبي بمنأى عن هذه المناورات! إن الأوروبيين أحرص الناس على لعبة السياسات التوازنية، فحرص الولايات المتحدة طيلة العقود الأربعة الماضية على إحكام سيطرتها على أهم جهاز لتمويل التنمية العالمي لتوجهه كيفما تشاء من خلال منصب رئاسة البنك الدولي، دفعها لترشيح بول وولفويتز الذي أثار تاريخه السياسي الجدلي الكثير من اللغط حتى في الأوساط الأوروبية، إلاّ أن الاعتراض الأوروبي الذي لن يجني الكثير، تنحّى جانباً لإفساح المجال لعقد صفقة أمريكية ـ أوروبية يتم بموجبها الترحيب الأوروبي ببول وولفويتز، في مقابل دعم الولايات المتحدة لفوز المفوض التجاري الأوروبي السابق باسكال لامي بمقعد منظمة التجارة العالمية. فلا نفاجأ عند تغيير المواقف، والقفز فوق الحواجز، فكل يراهن بما لديه، والسؤال الأمثل: بماذا احتفظنا لأنفسنا من كروت ندخل بها لعبة المساومات!