انتصارات منقوصة... ونكسات غير قاضية

TT

في الدول التي تحترم نفسها وتتقن ممارسة السياسة، تسود ظاهرة الانتصارات المنقوصة والنكسات غير القاضية، وما عدا ذلك يدخل في الاستثناءات. أما في الدول التي تحبو إما باتجاه الديمقراطية أو بعيداً عنها فتنقلب المقاييس، ويصبح السعي إلى الانتصار حملات شعواء غوغائية تتجاوز المنطق والحدود، وتسقط كل «خطوط الرجعة».

أنا لن أحاول هنا مقارنة تجربة الانتخابات العامة البريطانية، التي تابعتها باهتمام كصحافي وكناخب، بحملة الانتخابات النيابية اللبنانية، لأنه يستحيل إجراء أي مقارنة جادة بين الحالتين.

ففي بريطانيا تقاليد ديمقراطية عميقة الجذور تستند إلى حد أدنى من الإجماع الوطني وشعور كل مواطن أنه متساو في الحقوق والواجبات مع باقي مواطنيه، وكذلك الى إدراك المواطن (أو الناخب) أنه معنيّ مباشرة بالمحاسبة الواعية للقوى والأحزاب التي تدّعي تمثيله. وبالتالي فكل شيء واضح ومتفق عليه، من قانون الانتخاب وإجراءات الترشيح ولوائح المرشحين المختارين مسبقاً، إلى آلية الاقتراع في عموم البلاد خلال يوم واحد تفتح فيه أقلام الاقتراع وتغلق ويباشر الفرز، من دون تشكيك أو تخوين. والنتيجة أن البريطانيين وجهوا يوم الخميس الفائت عدة رسائل تنطوي على مواقف عاقلة ومحسوبة، أبسطها الصراحة في الإجابة على أسئلة فرق استطلاعات الرأي ـ إذ تبين بعد اعلان النتائج كم كانت دقيقة تلك الاستطلاعات ـ وانتهاء بالشكل النهائي لتلك النتائج.

حزب العمال حقق كما مرتقباً انجازاً تاريخياً بفوزه لأول مرة في تاريخه بثالث انتخابات على التوالي، غير أنه تعرّض لتراجع كبير في حجم التأييد الشعبي قلص أغلبيته البرلمانية الساحقة إلى ما دون النصف. وحزب المحافظين مني بهزيمته الثالثة على التوالي مما حدا بزعيمه مايكل هوارد إلى التعجيل بالاستقالة كما تقضي التقاليد البرلمانية العريقة، مع أنه أخرج هذه المرة الحزب من الظلمة وقاده إلى استعادة حضوره السياسي في العديد من الدوائر، وبالذات في لندن. وبينما واصل حزب الديمقراطيين الأحرار الاستفادة من حق الناخبين بالتصويت الاعتراضي ضد الحزبين الرئيسيين، تمكنت قلة من المرشحين من جعل هذه الانتخابات مناسبة لتسجيل المواقف في قضية واحدة أو اثنتين، فنجح البعض مثل النائب جورج غالاواي المناهض لحزب العراق، والمرشح العمالي المنشق بيتر لو في جنوب ويلز المعترض على فرض حزبه امرأة على تنظيم الحزب المحلي، وتغلب غالاواي ولو (العماليان السابقان) على مرشحتي الحزب، فقد خسر آخرون مثل النائب السابق ومقدم البرامج التلفزيونية روبرت كيلروي سيلك المناهض للوحدة الأوروبية.

وهكذا نجد أن لا أحد انتصر ليحصل على تفويض مطلق... ولا أحد تعرّض للسحق تمهيداً لإلغائه من المعادلة.

ولكن ماذا عن لبنان؟

في لبنان، ذي الأربعة ملايين نسمة، دعي ناخبوه في مختلف دوائرهم «الفسيفسائية» طائفياً للتصويت في أربع جولات انتخابية تمتد نحو شهر... وهذا أمر غير معهود ـ حسب علمي إلا في الهند التي يربو عدد سكانها على المليار نسمة ـ !!

ورغم كثرة الأحزاب والكتل فالحياة الحزبية (من حيث مفهوم الحزب الذي يتجاوز الانتماءات غير السياسية) معدومة. بل إن الدستور اللبناني يتعامل مع المواطن كجزء من «قطيع» طائفي لا كإنسان مستقل له رأيه وتفكيره، وقوانين الانتخاب «استنسابية» مطاطة مكرسة لخدمة مصلحة الأطراف التي يخدمها الميزان الظرفي للقوى الإقليمية. و«الوفاق الوطني» عموماً فكرة ضبابية أقرب ما تكون إلى «التوافق» العابر على مصالح آنية أبعد ما تكون عن «الوطنية». والمنظور العام للصداقات والعداوات والتحالفات والصفقات... ضيق الأفق والصدر ونزق وانفعالي وكيدي.

في لبنان شوه منذ زمن بعيد مفهوم الـ«لا غالب ولا مغلوب» على ما فيه من سلبيات تستبطن حرمان المواطن من حق محاسبة حاكميه ومعاقبتهم. وسجلت وما تزال تسجل أرقام قياسية في تبديل المواقف، وقول الشيء وضده، وأخذ الناس بالشبهة لمجرد أنهم من «الفريق الآخر»، والتغاضي عن جرائم الأقربين وتضخيم هفوات الأبعدين. وعليه يحق للبعض التساؤل عن جدوى الديمقراطية فيه إذا كانت كما هي فعلاً إما «معلّبة» أو «مفروزة»، خاصة أنها مصطنعة على أي حال.