مدينة التاريخ والضفاف

TT

اكتشفت عندما بدأت ادخل المكتبات الكبرى في اوروبا واميركا الشمالية، ان الكتب عن تاريخ مصر، تفوق بكثير الكتب عن تاريخ اي دولة عربية او افريقية اخرى. وذلك طبعاً بسبب الفراعنة. او الفاطميين. او نابوليون. او محمد علي. او ثورة 23 يوليو. او تقلبات مصر بين المراحل وموجات التاريخ. ومن بين هذه الكتب كان هناك الكثير عن القاهرة: تاريخاً وروايات وحكايات. وقد جمعت الكثير عن العاصمة المصرية. وكان في نيتي، ولا ازال، اذا قدَّر لي، ان اضع رواية عن مصر عشية الثورة وغداتها. ولذلك بذلت، وابذل ما استطيع، من جمع وبحث. فربما اعطيت الوقت والقدرة في زمن قريب. وذلك لأنني اعتقد بأنه ليس هناك من تاريخ متعدد وملون وماتع مثل تاريخ القاهرة ومصر. اي التاريخ الحديث والتاريخ الفرعوني الذي كلما أُكتُشِفَت منه طبقة غابت عنا طبقات. وقد صدر أخيرا للاستاذة في الجامعة الاميركية في القاهرة، نيللي حنا، كتاباً عن تاريخ الطبقة المتوسطة في مصر بين القرنين السادس عشر والثامن عشر. وهي مرحلة لم يؤرخ لها بدقة من قبل. لكنها مثل جميع مراحل المدينة الساحرة، غنية بالناس والمشاهد وانواع البشر وفرحة الناس ودعاباتهم.

لقد كانت القاهرة مدينة سعيدة ومرحة على الدوام. لكن شيئاً ما ادى الى دخولها الى زمن الوجوم وغياب الابتسام كما يقول ماكس رودبنك في كتابه «القاهرة مدينة المنتصرين» (بيكادور، الطبعة الاولى 1998) والذي كان مراسل «الايكونومست» في «ام الدنيا».

إذا اردت ان تكتب تاريخ مصر فمن أين تبدأ؟ او بالتحديد تاريخ القاهرة التي اصبحت عاصمة الفتح الاسلامي قبل 14 قرناً ام قبل آلاف السنين، عندما تناوب صنَّاع التاريخ على جعل دلتا النيل واحدة من أهم آثار الكون ومعالم الحضارة البشرية. لقد قال حكواتي القاهرة الاكبر نجيب محفوظ ان القاهرة معشوقة لا يلتقيها الحبيب الا في زمن الشيخوخة. فلا عمر يتسع لها ولا شباب يستطيع احتواء واحتضان عطاءاتها ومناخاتها وفسحها الجمالية. وهناك جيل (او اجيال) احتار في القاهرة فلم يستطع ان يحدد ان كانت هي مدينة شرقية ام غربية ام مدن متعددة المعالم والحضارات واللغات. وعندما بدأت ازور مصر في الستينات كنت اشعر ان القاهرة اشبه بثريا معلقة بين سحر الشرق الذائب وبريق الغرب الذي يرفض الغياب. وفي تلك المرحلة حشرت القاهرة حشرا بين بقايا الماضي المنحوت على المباني وفي الجادات العريضة التي راح يتآكلها القدم. وفي العام 1966 التقيت عبد الحليم حافظ في «عمر الخيام ـ الزمالك» الذي كان قصراً يملكه اللبناني المهاجر المعروف بالامير لطف الله، وحوَّل الى فندق. واندفعت اسلم على «العندليب الاسمر» وهو ينزل الدرج التاريخي العريض. وبعد قليل تنبهت الى ان الفندق شبه فارغ وان بعض مكاتب الادارة فيه اصغر من خم الدجاج. وقد تغير الامر كثيراً فيما بعد. لكن القاهرة لم تستطع ان تصدنا عنها في اي مرحلة من المراحل.

قطع ابن بطوطة في رحلاته الاسطورية نحو 75 الف ميل. واعتمد في ذلك قاعدة واحدة لن يخرقها: لن يسلك الطريق نفسه مرتين! لكنه جاء الى القاهرة خمس مرات. وفي رحلاته الاخرى كتب عن منحه بيتاً او ارضاً او مأوى. اما هنا فقد تحوَّل الى شاعر يصف المدينة التي تحتضن العلماء والجهلة، الحذرين والمجانين، المرحين والعابسين. ولم يلحظ ماكس رودنبك وجود العبوس الا في السنوات الاخيرة. اما انا فلم ارها مرة واحدة متجهمة او عابسة. حتى لو فَعَلتْ.