درس من مدريد

TT

تلقيت اثناء حضوري محاكمة الاسلاميين الاسبان في مدريد درسا يليق باستيعاب العراقيين، ولِمَ العراقيون فقط، انه درس يهم العرب والمسلمين عموما.

بدا لي خلال الايام القليلة التي حضرت فيها المرافعات ان كل شيء يجري بأصوله الصحيحة والقاضي يتعامل مع المتهمين برفق ورحابة صدر. وكذا فعل المدعي العام. لم يكن هناك اي ضغط نفسي او استعداء على المتهمين مما يتوقعه الانسان في مثل هذه المحاكمات ذات الطابع السياسي. وحتى الآن، لم يدع اي منهم بالتعرض للتعذيب الجسمي او النفسي.

جرت المرافعات في محكمة عرفت باسم المحكمة الوطنية. ولكن لدى التتبع والسؤال وجدت انها كانت تعرف في عهد الجنرال فرانكو باسم محكمة الأمن العام، الاسم الذي كانت ترتعد له مسامع المواطنين.

يشكو بعض الناس ايضا من ان تعيين القضاة يقوم به مجلس القضاء الاعلى الذي ينتخب البرلمان ـ وبالتالي الحزب الحاكم ـ اعضاءه. ولما كان المحافظون يشكلون الاكثرية البرلمانية فقد ملأوا السلك القضائي بقضاة محافظين من اقصى اليمين. يسيطر الحزب الاشتراكي الآن على البرلمان، ولكنهم لم يكتشفوا بعد طريقة لاقصاء هؤلاء القضاة واستبدالهم بقضاة يساريين. المفروض ان يكون القضاة محايدين وفي عزلة عن النزاع الحزبي. ولكن كما يبدو مما سمعت ان الاسبان لم يتأقلموا بعد على هذا الانفصال والحياد.

وفي هذا درس للعراقيين. يتميز القضاء في سائر الدول بالروح المحافظة ومقاومة التغيير. سيعمد المسؤولون العراقيون الى انتقاء قضاة يفترض فيهم العدل والاستقلال، ولكنهم سيحتاجون الى سنين طويلة، لينفضوا عنهم غبار اساليب صدام حسين ونهج محكمة الثورة.

ربما سيليق بهم ان يبدأوا باستعارة تقنية المحكمة الوطنية في مدريد. كان هناك نفر من العفاريت يحملون بأيديهم لوحات رقمية وازرارا يدوية، لا ينظر القاضي في مستمسك او صورة حتى يضغطون على زر مما في ايديهم من ازرار فنرى نحن المراقبين كل ذلك امأمنا على شاشات كبيرة موزعة بحيث يستطيع كل واحد منا مشاهدتها. وتمضي الكاميرا التقنية فتكبر لنا او تصغر الوثيقة او تركز على جزء منها حسب ما يوعز به القاضي او الادعاء او الدفاع.

لحظة، وتدوي القاعة بصوت جزء من افادة او شهادة سجلت في زمن سابق او تليت نصوصها من كاتب الضبط. وهذه تسمية مجازية، فلم يعد هناك كاتب ضبط في الواقع. فكل ما يقال ويجري في المرافعة يسجل فوريا ويطبع حالا ويودع في ذاكرة الكومبيوترات المبرمجة للعدالة.