الصحافة في الجزائر: بين الحرية والخطاب الاستغبائي

TT

يمكن القول اليوم من دون تردد أن الصحافة المستقلة في الجزائر هي المجال الوحيد الذي انفلت من رقابة السلطة السياسية، منذ الانفتاح الديمقراطي الذي أقره دستور23 فبراير 1989. فهي اليوم متنفس للتعبير في مجتمع عانى كثيرا من انغلاق قنوات الاتصال الرسمية.

وعندما نتكلم عن حرية التعبير في الجزائر، إنما نقصد الصحافة الخاصة المكتوبة فقط، كون وسائل الإعلام الثقيلة كالتلفزيون والإذاعة لا يزالان تحت «رقابة مشددة» للسلطة، التي أعلنت صراحة أنها لن تفتح مجال السمعي البصري إلى حين تشاء.. والتلفزيون لا يزال أسير لغة إعلامية أبوية فارغة ومطنبة بمفردات الثناء على كل ما هو رسمي أو ما أسميه بـ «التلميع الدائم للسراب»، كما كان الحال عليه أيام الأحادية!؟ وعندما نعرف التأثير الكبير لهذه الوسيلة الإعلامية في بلد بلغت نسبة الأمية فيه الـ 30 بالمائة، نفهم لماذا تصر السلطة على احتكارها، فالذي يمتلك التلفزيون عندنا يمتلك الرأي العام، وليس أدل على هذا من نتائج الانتخابات الرئاسية في 8 أبريل 2004 التي أعطت الرئيس بوتفليقة فوزا ساحقا بـ 85 بالمائة من الأصوات.

حال حرية الصحافة اليوم في وضع اسميه «التراوح» في المكان، أو قل: ان شيئا من الإحباط بدأ يتسلل إلى قلوب الكثير من المهنيين والرأي العام، هذا الأخير كانت له نظرة أكثر تفاؤلية عن مساحات التعبير الحر في بداية التسعينات. والمسؤولية يتحملها المهنيون والسلطة في آن واحد، أو، لنقل ان مسؤولية أهل المهنة أثقل لأننا نعرف أن السلطة، أية سلطة، لن تفرش البساط الأحمر أمام حرية التعبير، ومن ينتظر السلطة أن تمنحه حرية التعبير، فهو كالذي يعتقد أن الذئب راع أمين للغنم!؟.

من جانب السلطة، فزيادة على استمرارها في الانغلاق وحجب المعلومة عن الصحافة، وبالتالي عن الرأي العام، فهي غير مستعدة للقبول بإرساء منظومة تشريعية ضأمنة لحرية التعبير، والواقع يفيد أن هناك إجراءات عملية للانغلاق والردع أكثر منها نحو الانفتاح، والجزائر في هذا الشأن متأخرة مقارنة مثلا بالمغرب، حسب تقدير المنظمة الأميركية «فريدم هاوس»، نظرا للقوانين الزجرية في حق الصحافيين الجزائريين. ونذكر في هذا الشأن مرسوم حالة الطوارئ الساري المفعول منذ فبراير 1992، ثم قانون العقوبات المعدل في يونيو 2001 حيث تم تشديد العقوبات على جنح الصحافة لا سيما القذف في حق رئيس الجمهورية والمسؤولين السامين في الدولة. ولا زلنا إلى اليوم بقوانين تقر بسجن الصحافي عقابا له على كتاباته، والصحافيون يفتقدون لأدنى حماية في ممارسة مهامهم، فهم أول من يكون محل متابعة وتعنيف لما يكتبون عن الفساد، ويكفي في هذا الشأن ذكر عدد الصحافيين الذين مثلوا أمام المحاكم، أو أدخلوا السجن وعانوا من المضايقات لأنهم أدانوا سوء التسيير والتجاوزات.

وتختفي خلف هذا الموقف قضية جوهرية وهي أن طبيعة النظام السياسي في صيغته الحالية لا تقبل إلا بهذا الهامش اليسير فقط من الحرية، على ضيقه، ولا ينبغي تصور مزيد من التوسع في مجال حرية الصحافة، والحريات عموما، إذا لم تقبل السلطة بمزيد من الانفتاح الديمقراطي.

من جانب المهنيين، فالأمر تغيّر كثيرا مقارنة ببداية التسعينات. لسنا اليوم أمام «مغامرة فكرية» لصحافيين شباب متحمسين للدفاع عن «صحافة محترفة» حرموا منها في «عهد الستالينية».. فالكثير من الصحف اختفت لأسباب تجارية، وأخرى متعلقة بعقاب السلطة لها على خطها الافتتاحي ولم تلق تضأمن أهل المهنة!؟ وتحرص الصحف التي فلتت من احتواء السلطة شديد الحرص على توازنها المالي أو ربحها، وتموقعها في بيئة اقتصادية يميزها الفساد والصراع المستميت حول الريع... والاستثمار في الصحافة ظل محل اهتمام السلطة التي تخلق عناوينها وقوى المال أيضا، فأين محل حرية التعبير هنا من الإعراب؟

وهذا يدفعنا إلى القول أنه لا يمكن فصل الصحافة الجزائرية عن هذه البيئة السياسية غير النظيفة، حيث فقد العمل السياسي الحد الأدنى المطلوب من الأخلاقيات، والقوى السياسية والاجتماعية لا تزال هشة وغير قادرة على بناء ذاتها، وبالتالي فهي خاضعة لتأثيرات الجذب والاحتواء، ثم ان ميزان القوى بقي دوما لصالح السلطة على حساب المؤسسات الأخرى كالسلطة التشريعية والعدالة وجمعيات المجتمع المدني.

لكن لنسأل: ما جدوى وجود صحافة تتحدث يوميا عن سوء التسيير وتعاطي الرشوة والتجاوزات والاختلالات في سير هياكل الدولة والمجتمع، لكن لا أحد يحرك ساكنا، سواء من جانب مؤسسات الدولة (المؤسسات الرقابية أساسا) التي لم يعد يقلقها القدح، أو من المجتمع المدني الذي لا يتحرك إلا بإيعاز؟

من جانب آخر، إذا كانت هناك أخطاء تقع فيها الصحف اليوم فهي ناجمة عن نقص الاحترافية وتسيّس الإعلاميين الذين ورثوا «عقلية نضالية»، إثر المعارك التي خاضوها من أجل حرية الكتابة ضد النظام الأحادي. لقد اصطدم الصحافيون في بداية تجربتهم بأزمة سياسية وأمنية فرضت على هيئات التحرير نمطا معينا من العمل، وبدل تشكيل سلطة رابعة مستقلة، وجد الصحافيون أنفسهم في خندق السلطة (والمجتمع أيضا) بسبب خطر الإرهاب الكاسح، حينذاك تولد شبه تحالف غير مكتوب بين الطرفين، لكن العلاقة عادت لتتكهرب لما ابتغى الصحافيون استرداد استقلاليتهم، وربما ربط تحالفات جديدة بالنسبة لبعضهم، والأخطر هو سعي القوى النافدة أو الزمر لجعلها أداة لحسم صراعها حول السلطة والنفود.

ويفسر جانب من هذا الوضع بكون الكثير من الصحف لا تحمل من الاستقلالية غير الاسم. فهي غير مستقلة عن مطابع الدولة التي يغض مسؤولوها الطرف عنها لما تكيف خطها الافتتاحي وفق الخطاب الرسمي، وفي حالة العكس تطبق عليها القواعد التجارية الصارمة، وغير مستقلة عن المؤسسة العمومية للإشهار التي تحتكر الإعلانات الإشهارية العمومية، وتعطي بسخاء بحسب الولاء للسلطة والعلاقات الزبائنية، وتمنع عمن تشاء، وعليه لا يجب انتظار صحف مستقلة وهي فاقدة لأدوات الاستقلالية.

وينبغي أن تكون لنا الشجاعة للقول ان جزءا من مأزق الصحافة يتحمله مسؤولو المؤسسات الإعلامية. فإذا كانت بعض المقالات الصحافية هزيلة وعديمة الدقة والمصداقية ومثيرة للسخرية، فالسبب يكمن في هشاشه هيئات التحرير ذاتها، فهي قليلة العدد، وتضم صحافيين شباب جاءوا للتو من مدرجات الجامعة، من دون أدنى تكوين أو تأطير داخلي، ثم يزج بهم في معالجة قضايا سياسية واقتصادية وأمنية في غاية التعقيد. ثم ان الظروف الاجتماعية والمهنية لهذه الفئة رديئة جدا، فكيف يمكن للصحافيين أن يبلغوا مستوى أرقى ومتوسط أجورهم لا يصل 250 دولارا في أحسن الأحوال، وعليه، والحال هكذا، لا ينبغي انتظار مستوى آخر للصحافة الجزائرية غير الذي فيه.

ومن الترف الحديث عن صحافة حرة ومتطورة، في ظل انعدام منظمات قوية لأهل المهنة ونواد وتقاليد نقابية، وفضاءات حرة لمناقشة القضايا الأخلاقية والمهنية والاجتماعية. هذا الوضع غذته انقسامات فكرية وولاءات سياسية ودوافع مصلحية، والقوى التي تخيفها حرية التعبير لا تقبل بوجود هذه الفضاءات. ويكفي أن نشير، مثلا، إلى مشروع «ميدا 2» للاتحاد الأوروبي بقيمة 5 مليون أورو، المعطل منذ أكثر من 5 سنوات، ولم يفلح لا الصحافيون ولا سفير اللجنة الأوروبية ولا السلطة في تنفيذه ورفع الغبن عن الصحافة الجزائرية.

والآن لنسأل: أي مستقبل لصحافتنا؟ الخوف كل الخوف أن تخضع الصحافة الخاصة للاحتواء مثل بقية الكيانات السياسية والاجتماعية التي ولدت مع الانفتاح الديمقراطي، كجمعيات المجتمع المدني والأحزاب والنقابات والمجالس المنتخبة، وبالتالي تدير الصحافة ظهرها للمجتمع، ولا تمكنه من المعلومات الضرورية لمراقبة تسيير الشأن العام. ما يراد للصحافة المستقلة اليوم، هو أن تصبح تعبيرا فقط عن مصالح الفئات النافذة في السلطة والقوى المالية والسياسية، وهكذا ستساق نحو التطبيع مع قتلة السلطة الرابعة..!

* نائب رئيس تحرير صحيفة «الخبر» الجزائرية.