بعد السودان: صيف الإستفزاز للبنان وإيران..!

TT

في الوقت الذي تزداد المخاوف من صيف استفزازي حارق تعيشه ايران بصيغة الخلخلة، او ربما اكثر من ذلك وينعكس على «حزب الله» في لبنان من خلال عدوان او عمليات اغتيال وتفجيرات تشل مؤسسات الحزب، وكذلك على الحكم السوري من خلال تصعيد اللهجة الاميركية، وتنشيط الجيوب المعارضة بغرض التطويع وليس اسقاط النظام... في هذا الوقت يحدث امر في غاية الغرابة وهو أن الادارة البوشية بدل تشجيعها العملية السلمية التي خطا الحكم السوداني في الشمال وشقيقه التمرد في الجنوب خطوات ملموسة على طريق تنفيذها، فإنها، وبالتنسيق مع حكومة توني بلير الخارج منتصرا كشخص منتكسا كحزب من الانتخابات التي جرت الخميس 5 مايو 2005، انتقلت من اسلوب اللاعب الى اسلوب المتلاعب في الموضوع السوداني. وبدلا من ان تكون مرتاحة للخطوات الجادة التي تحدث في «القارة السودانية»، وكيف ان جلسات لجنة صوغ الدستور الانتقالي بدأت، والتقى في «قاعة الصداقة» في الخرطوم معظم رموز العمل الوطني والسياسي بمن في ذلك الخارجون والخوارج. وكان لافتا للانتباه ان تبادُل الشوق واللهفة كان عفويا، وإلى درجة بدا فيها الاستهجان واردا ازاء لحظات من العناق بين مَنْ كانوا في حالة اقتتال وتخوين، متبادَلين ثم طوى هؤلاء الصفحة وانتقلوا من جبهة الاحتراب الى خيمة التصافي والعمل معا من اجل سودان جديد، شعاره العام عفا الله عما مضى ولا رصاص بعد اليوم.

بدل الارتياح لما يحدث والتباهي بأن التغيير الذي تريده الادارة الاميركية يمكن ان يتحقق ومن دون عدوان كالذي استهدف العراق، فإنها انتهزت مناسبة الخطوة النوعية المتمثلة بجلسات لجنة صوغ الدستور وعممت كلاما عن تعاون أمني أظهر «السودان الإنقاذي»، وكما لو انه عربة من الدرجة الثالثة في القاطرة الاميركية، وان كبار القوم في النظام هم مخبرون في خدمة العم بوش. ومثل هذا الكلام يناقض الحقيقة، ذلك ان التعاون المشار اليه حدث بإلحاح ورغبة من الادارة الاميركية، وفي زمن سبق انجاز العملية السلمية بزمن طويل، وتحديدا عُقب العدوان الذي استهدف «مصنع الشفاء» للادوية، بحجة انه يحوي مواد كيماوية تندرج في اسلحة الدمار الشامل، وان اسامة بن لادن كان يخزِّنها في المصنع الذي هو في واقع الحال مصنع ادوية ينتج من الكميات لعلاج الملاريا المستشرية في السودان ما يغني عن تعقيدات الاستيراد، كما ان معظم دول الجوار الافريقي تستورد منه، وبذلك ينجو فقراء القارة السوداء من موت شبه مؤكد. وبعدما لم تقتنع السلطات الاميركية بحقيقة المصنع، فإن الحكومة السودانية لم تمانع في طلب هذه السلطات ايفاد لجنة للتأكد. ويومها تعاونت الحكومة الى ابعد الحدود مع لجنة التحقق الاميركية لأن المصلحة في ذلك مشتركة. وربما يتبين ذات يوم في حال اُتيح المجال امام تكشُّف الحقائق، ان ضرْب المصنع كان من اجل ايفاد لجنة التحقق المشار اليها، لكي يتم الاعلان في وقت لاحق عن ان التعاون المخابراتي بين السودان واميركا هو على ارفع المستويات وان بعض كبار القوم في «الحكم الانقاذي» هم على نحو ما اشرنا «عملاء» للاستخبارات المركزية الاميركية.

ويثير الاستغراب هذا الاعلان، ذلك انه في حال كان التعاون حقيقيا، فإن المصلحة تقتضي عدم الكشف عنه.. إلاَّ اذا كان الغرض هو مقدمة لحملة استفزازية ضد «الحكم الانقاذي»، تلتقي مع حملة التحرش البريطانية والتي قد تزداد حدتها بعد فوز بلير بولاية رئاسية ثالثة. اما لماذا قد تزداد، فلأن بلير يتطلع الى ان يختم عهده في العمل السياسي بعمل كبير يرتبط به شخصيا، ولا يكون فيه ملحقا بآخر، على نحو ما هي حاله في الموضوع العراقي الذي تستأثر ادارة الرئيس بوش به كخيرات، وتتقاسمه مع بريطانيا وآخرين كاخفاقات. ومن الجائز القول اجتهادا ان الحملة الاستفزازية الاميركية ونظيرتها حملة التحرش البريطانية، حيث بلير وراء قرار مجلس الأمن 1593، تلتقيان عند غرض واحد، وهو احراج الاسلاميين في السودان مقدمة لإخراجهم من دائرة شبه التحالف مع النظام الثوري الاسلامي في ايران، وذلك لأن بقاء هذين النظامين على حالة من الاستقرار من شأنه انعاش التيارات الاسلامية في عدد من الدول العربية. هذا الى جانب ان التحديات الكلامية السودانية والايرانية واصداءها في مجتمع «حزب الله» في لبنان، ومجتمع حركة «حماس» و«الجهاد الاسلامي» في فلسطين، تُسبب استفزازا بالضد للادارة البوشية ولحكومة بلير، مع الأخذ في الاعتبار أن مفردات التخاطب السودانية تُبقي في استمرار على ابواب التحاور من اجل التفاهم مشرَّعة. ولقد بلغ التحدي السوداني أوجه يوم الخميس 28 ابريل (نيسان) 2005 متمثلاً بكلام قاله الرئيس عمر البشير في احتفال نظَّمه الحزب الحاكم لمناسبة المولد النبوي الشريف، وهي مناسبة تجعل المتحدث، خصوصا اذا كان رئيس البلاد، يختار التعابير بعناية او يقرأ نصا مكتوبا، لكن الرئيس البشير المنزعج اشد الانزعاج من خيبات امل نظامه بـ «الصديق الاميركي» المتلاعب فعل العكس. وفي شأن القرار الدولي المتعلق بمحاكمة في لاهاي لشخصيات سياسية وأمنية سودانية بتهمة ارتكاب جرائم حرب في دارفور، قال امام المحتفلين بالمناسبة الدينية الكريمة «والله العظيم لن نسلِّم اي سوداني ليحاكَم امام اي محكمة خارج البلاد. لقد ظن البعض في السودان والعالم اننا نخشى اميركا وبطشها واوروبا وقوتها والامم المتحدة وتجاوزاتها، ولكن الذي يخشى الله لا يخاف إلاَّ منه. لقد خبَرَ المجتمع الدولي حكومتنا لمدة ست عشرة سنة، ومارس عليها ضغطا سياسيا واقتصاديا ودبلوماسيا، وكيدا ودعما عسكريا لأعدائها... إلاَّ ان النتيجة كانت الفشل. وبشهادتهم فإن سياسة الضغط والاحتواء لم تأتِ بثمار مع الخرطوم...». ثم اشار الى ان الحكومة متمسكة بالقوانين الاسلامية، وإنها في صدد تعيين مدع عام وتشكيل محكمة وطنية لمحاكمة المتهمين في موضوع احداث دارفور.

هذا بالنسبة الى المفردات السودانية الانقاذية. اما المفردات الايرانية و«الحماسية والجهادية» وكذلك مفردات «حزب الله» فإنها، عكس المفردات السورية الملطَّفة، اشد حدة وإلى درجة توعُّد اميركا ومصالحها بـ «نار جهنم» إن هي جربت الاعتداء. ومع ان مسألة حلف اليمين عادية جداً بالنسبة الى اللسان السوداني عندما تتعلق بالطلاق، كأن يقول المتحدث ولأبسط الإشكالات او المناسبات، حتى اذا كانت دعوة الى تناول القهوة او الطعام او قبول هدية «عليَّ الطلاق...»، فإن حلف اليمين «بالله العظيم والقرآن الكريم والنبي الأمين» ليس امرا بسيطا على الحالف وبالذات على «الانقاذي». ومن هنا فإن الرئيس البشير الذي يكرر للمرة الثانية وامام الوف الشهود حلف اليمين بـ «الله العظيم» بأنه لن يسلِّم احدا من المتهمين، يُلزم نفسه وهو الإنقاذي والمتدين بكلام من الصعب عليه نفسياً وشعبياً العودة عنه، وبحيث انه اذا وجد أن لا مناص من فرض القرار الدولي على السودان وتسليم المتهمين، لكي يحاكَموا في لاهاي على شاكلة الليبيين، فقد يفاجىء الشعب باستقالته وبحيث يتولى الأمر من يخلفه.. وبهذا يكون ثابتا على العهد والمبدأ والقسَم.

خلاصة القول إن الادارة البوشية ومعها حكومة توني بلير تنتقمان من نظام «الانقاذ السوداني»، بدل ان تكافئا هذا النظام على حُسن سلوكه في موضوع العملية السلمية. وهما على ما توضحه التلاعبات لا يريدان للسودان ان يتقدم.. تماماً كما ارادا للعراق ان يتأخر. كما انهما على ما يبدو لا يريدان، ومنطلق مرض الإملاء والهيمنة، لصيغة التفاهم بين شمال السودان وجنوبه ان تنجح بالمفهوم السوداني الوطني، كي لا تصبح نموذجا لإنهاء المشاكل العالقة في الدول الافريقية بين اهل الوطن، وعلى قاعدة الشقيق لشقيقه في السراء والضراء، وفي هذه الحال يجد الانقاذيون ان حالهم هو ما ينطبق عليه قول الشاعر العربي: «ومِنْ نكَد الدنيا على الحر أن يرى .. عدوا له ما مِنْ صداقته بد». ونقول ذلك على اساس ان الامور انتهت الى ان حبات المانغو السوداني (وهو هنا بدل البيض) وُضع في السلة الاميركية ـ البريطانية، ومَنْ يفعل ذلك تتضاءل خياراته في لحظات الشدة والاستفزاز وما اكثرها هذه الايام، مستهدفة السودان وايران ولبنان وسورية، وإلى درجة ان صيف 2005 بدءا من شهره الاول سيكون استفزازيا للأطراف المشار اليها وامتداداتها مثل «حزب الله» و«حماس» و«الجهاد»، وحارقا في شكل أو آخر في حال ان سيناريو ما بعد الفوز الرئاسي الذي يثير الاستغراب للحليفين بوش الابن ـ توني بلير، يستوجب حسم أمر يتعلق بأنظمة وتنظيمات اسلامية التوجه قبل ان يضطر الرئيس بوش الى الأخذ بقرار لا يُكمل فيه ولايته، ويضطر الرئيس البريطاني الى الانصراف على نحو ما اصاب مارغريت ثاتشر، او الانصراف اختيارا تحاشيا لما اصاب السيدة الحديدية الاولى في تاريخ بريطانيا بعد الملكة فكتوريا... والاستقرار مع عائلته في الديار الاميركية، ابتعادا عن تداعيات قانونية قاربت على التبلور.