لا فض فوه: فلننخرط في تحالف الحضارات

TT

كما هو معلوم، حضر رئيس الحكومة الاسبانية الشاب، خوسي لويس ثباتيرو، افتتاح قمة الجامعة العربية في الجزائر، وشارك فيه بورقة تضمنت دعوة الى «تحالف الحضارات».

والغريب انه لا أحد أعار هذه الدعوة الاهتمام الذي تستحقه، وكأنها كانت مجرد مجاملة، وفي أحسن الاحوال تعبيرا عن ارادة حسنة لا تخلو من بعض سذاجة، بينما «الواقع» الذي لا يرتفع، و«الحقيقة» التي لا يمكن انكارها، هي صدام الحضارات.

ولا شك ان صدام الحضارات اصبح مع صعود نجم الادارة الاميركية الحالية واقعا معاشا يوميا، وحقيقة ملموسة في جميع مناحي الحياة. ولما نتحدث عن صدام الحضارات فاننا نقصد اساسا الصدام بين الحضارة الغربية، وعلى رأسها الثقافة الأنجليساكسونية، وبين الحضارة الاسلامية، ثم حتما الحضارة الكنفوشيوسية، تماما كما حرّض على ذلك صاحب النظرية والتصور الاستراتيجي الموسومين بصدام الحضارات، صمويل هنتنغتون. ولا شك أن بروز ظاهرة الارهاب في العالم الاسلامي، من جهة، وتعاظم قوة الصين الاقتصادية، من جهة اخرى، قد اسهما في التعجيل بتبني الادارة الاميركية الحالية لتلك النظرية، ولذلك التصور الاستراتيجي، وفي نقلهما الى ارض الواقع.

غير ان المرء يتساءل: كيفما كان صدام الحضارات حاضرا في عالم اليوم، وضاريا، ورهيبا، هل مع ذلك نجح، او حتى من شأنه ان ينجح في ايقاف كل تحاور وكل تلاقح بين الحضارات؟ هل افلح أو من شأنه ان يفلح في اقامة جدار نهائي غير قابل للاختراق بينها، خالقا بذلك سابقة مطلقة في التاريخ؟

وحتى لو افترضنا ان الامر كذلك اي أن صدام الحضارات «جمد» قيم التحاور والتلاقح بينها الى اجل غير مسمى، فهل يحق لنا ان نتجاهل صوتا يتمرد ضد ذلك التجميد، ويدعو الى احداث ثقوب في الجدار، والى انعاش ولو جزر صغيرة فحسب في ظله؟

هل يحق لنا ذلك، خاصة اذا كان الصوت المعني هو صوت ثاباتيرو، وما ادراك من هو ثاباتيرو؟

ثاباتيرو، لمن لا يعلم، هو فتى الشجاعة والحسم والمصداقية. بينما كان سابقه الرقم الثالث في قيادة التحالف الذي شن الحرب الثانية على العراق، قرر هو سحب القوات الاسبانية من هذا البلد، وفعل في ظرف اسابيع، غير مكثرت لغضب الرقم الاول، ولا بالاحرى الثاني.

ثاباتيرو، طبعا، اسباني، ومن يذكر اسبانيا، خاصة من المسلمين، ومن الاسبانيين ايضا، فانه يذكر الاندلس، ولكن المسلمين والاسبانيين لا يذكرون الاندلس بنفس الطريقة: المسلمون يذكرونها بنوع من الاعتزاز والحنين، وقطاع واسع من الاسبانيين يذكرها بخنق وضيق. ومع ذلك اشار اليها ثاباتيرو بدون خنق ولا ضيق. والحقيقة التي يجب ان تقال هي ان ذلك القطاع الواسع من الاسبانيين ذاته، المفروض فيه انه لم «يهضم» ابدا حقبة الاندلس الاسلامية، لم يحتج ولم يستنكر، كما كان يحق له ربما ان يفعل، غداة الفعل الارهابي الفظيع للحادي عشر من مارس (اذار) 2004، ولم يشأ ان يوجه نقمته ضد المغاربة والمسلمين كما كان يخشى، فربما انه بكل بساطة صناعة اخرى من صناعات خيالنا المريض بشتى الامراض، ومنها طبعا هذيان الاضطهاد...

ما الذي نريده نحن العرب والمسلمون اكثر مما صدر من انسان ومسؤول مثل الوزير الاول ثاباتيرو؟

هل نريد ذلك الشخص ان يفرش امأمنا الاندلس كما كانت زمنا، حتى نرضى ان نأبه بدعوته؟

ألا نقبل نحن العرب والمسلمون اندلسا الا اذا كنا فيها الحاكمين؟

أم ان ثاباتيرو لا يكفينا، ولن ننتبه الا اذا رمى لنا... بوش اشارة؟

اننا نحن العرب والمسلمين، حقيقة، عبيد لمنطق القوة، وبالمناسبة للفهم الافقر والاغلظ للقوة، الا وهو الفهم الفيزيائي بل الجسماني لها، ولا ندرك تفوق القوة المعنوية، ولا نحترم الا القوي «جسمانيا» ونميل الى احتقار الاضعف، فما بالك بالمعوق لو كنا بصدده!

نحن كذلك مغرورون، وككل المغرورين فاننا ننسج عن انفسنا اساطير ونتقوقع داخل تلك الاساطير، تاركين الزمن يسير من دوننا، وكلما تأخرنا زدنا تقوقعا داخل اساطيرنا وهكذا دواليك، ولذلك باتت اساطيرنا اضحوكات تتسلى بها الامم، ونحن لا نلوي على شيء. لقد آن الاوان منذ مدة لكي نعي بأن لا احد بقي يأخذ اساطيرنا مأخذ الجد.

لقد آن الاوان منذ مدة لكي ننظر عينا في عين لدونيتنا وتأخرنا، ونقر بهما مليا، لان في ذلك بداية خلاصنا الحقيقي، ان تبعها، كيفما كانت الصدمة، تحديد الاسباب بدون هوادة، والتخطيط للنهضة بدقة وصبر واناة.

وفي حال الدونية والتأخر الذي نحن فيه اليوم، فلما يقوم واحد مثل الوزير الاول ثاباتيرو، ويدعونا للحوار بل للتحالف، فأضعف الايمان، بل اضعف المروءة، بل واضعف الادب، ان نجيبه. والحقيقة انه كان لا بد ان نطير اليه لنعانقه، ونجزي له الشكر ونكيل له المديح، كما نعرف ان نفعل... مع الاقوياء!

الحقيقة ان المفروض الآن، ونحن محاصرون كما نحن، ان نكون المبادرين ليس الى الدعوة للحوار فحسب، وليس مع اسبانيا فقط وانما مع غيرها ايضا من الثقافات اللاتينية، ومع الحضارات الاخرى، وعلى رأسها ولأسباب بديهية الحضارة الكنفوشيوسية.

بدل ذلك تطوع بعض من بني ملتنا يدعون انهم اطهر الأمناء عليها لتحطيم رموز الحضارة الكنفوشيوسية في افغانستان، يا للبلادة! يا للإجرام!

ولكن لابأس، ما دام ان هناك من لا يزال يرغب في محاورتنا، وربط التحالف معنا، رغم سلوكاتنا الخرقاء وغرورنا، فربما نهتدي اخيرا الى بعض التواضع وبعض الحكمة.

إننا اصحاب المصلحة الاولى في تحاور وتحالف الحضارات ضد استعمال الثقافة الأنجليساكسونية من طرف بعض الاوساط المتنفذة المنتمية لهذه الثقافة للسيطرة على العالم.

ورغم اننا في وضع من دوني ومتأخر اليوم، فان حضارتنا لا تخلو طبعا من المضامين القيمة والخالدة التي تستطيع بها ان تسهم مساهمة فعالة، بل ربما حاسمة في ذلك التحاور والتحالف، شريطة فقط ان يكونا لنا فرصة في نفس الوقت لنقد حضارتنا ذاتها، اي لاجراء فرز داخلها بين القيِّم والخالد، وبين الذي ساهم في تشكيل اسباب من دونيتنا وتأخرنا، وان نزيح جانبا اعتبارات السيطرة، مناضلين فعلا من اجل عالم تتعايش فيه في سلم واحترام وتلاقح حر كل ثقافات العالم.

فهل ننخرط في تحالف الحضارات؟

هذا هو المطلوب وهذا هو المفروض.

* كاتب مغربي