كتابات من براغ ... إبراهيم بن يعقوب

TT

في 14 آذار (مارس) 1939 استدعى القائد ادولف هتلر الرئيس التشيكوسلوفاكي اميل هاتشا الى برلين. وظهر اليوم التالي ادخل هاتشا الى لدن الفوهرر، الذي قال له قبل ان يجلس ان جيوش الرايش الثالث تستعد لدخول براغ: اما ان يوقع ورقة الاستسلام امامه واما ان تدمر عاصمته. وسقط هاتشا مغميا عليه، فأسعف بإبرة من الفيتامينات التي تعطى للفوهرر. وعندما افاق اعطي الورقة فوقعها. شكرا للرئيس هاتشا وشكرا للحليم هتلر. لقد انقذت باريس اوروبا الشرقية من الدمار.

كان جنرال الماني قد انقذ باريس نفسها من الدمار خلال الحرب عندما رفض تنفيذ اوامر الفوهرر، ذلك الانساني العاطر الذي كان يحب الرسم والموسيقى ويكره تعذيب الحيوانات. ليس بالحظ اللطيف ان يكون خيار العواصم والبلدان بين هتلر وستالين! يعود اول ذكر لبراغ في التاريخ الى ما ورد العام 965 من وصف لها عند الرحالة ابراهيم بن يعقوب، وهو مغربي من طرطوسة باسبانية رافق حاكم قرطبة في جولة في وسط اوروبا. وعلّق باعجاب على ثروة المدينة الناتجة عن شتى انواع المتاجرة: العبيد، الحنطة، الخيول، التنك والذهب والفضة. ولم ينس ابراهيم بن يعقوب، ربما عن تجربة شخصية، الاشارة الى تراخي النساء في المدينة. ولست اعرف شيئا عن العصر الحاضر.

اذا كنت تبحث عن متحف في الهواء الطلق، فان براغ تكاد تكون مثل روما. ولكن بتاريخ بائس في معظمه. تاريخ فتوحات ومستعمرين ومستعبدين ومدينة ترغم على تغيير سياستها ثم مذهبها، مرة بعد اخرى، وقرنا بعد آخر. وفي النهاية تتوقف عن العد. فلا فائدة من التاريخ البائس، وهذا هو مصير العواصم الضعيفة عندما تكون محاطة بالقوى الطامعة. وكل قوة فظة في طبيعتها. علاقة المستعبد بأهل البلد. لكن ها هي اوروبا الآن تضع خلفها تاريخ الاحتلال والاغتصاب والاستعمار، وتعطى دوقية اللوكسمبورغ الحقوق التي لالمانيا، بلد الهجمات المتوالية والحروب والقتال المستمر. كم مرة هاجم الآن براغ؟ لا يدري اهل المدينة العدد على وجه الضبط. هتلر لم يكن الوحيد، مرة هجم فقراء المانيا على المدينة واحتلوا بيوتها وقلاعها واسواقها وجعلوا اهلها يهربون. ولا تزال لأسواق براغ تلك الرائحة التي وصفتها الكاتبة الاميركية مارسيا دافنبورت في الثلاثينات: «مزيج من دخان الفحم الحجري والبن المحمص واللحم المدخن والبصل المقلي». ولو جاءت اليوم لاكتفت بزيارة سوق الفواكه حيث تفوح روائح التفاح والاجاص والكرز وما يزرع في هذه الاراضي الشاسعة الخضراء.

الالمان الذين زحفوا على براغ في عصر هتلر ليبيدوا اهلها، والروس الذين احتلوها في 21 اغسطس 1968 وجعلوا الكسندر دوبتشك يقول: «اننا محكومون بالغانغسترز» هم هنا الآن. ولكن في صيغة مختلفة. الروس والالمان هم في كل مكان: سياحا ومستثمرين وشركات كبرى. يملأون الفنادق والساحات والباصات. وعلى بعد 3 ساعات بالقطار من براغ تقع اكبر واشهر ثلاث مدن المانية: برلين وميونيخ وفرانكفورت. لا هتلر في المانيا الآن ولا ستالين (او بريجنيف) في روسيا. وبعدما كان الروس يأتون جنودا فقراء يحلمون بقلم حبر ناشف اصبحوا يتوافدون اثرياء وسيارات فخمة وقدرة واضحة على البذخ. ولان العادات القديمة تنسى بصعوبة على قول المثل الانكليزي، فان اصحابنا التشيكيين لا يعرفون لغة اجنبية سوى الالمانية والروسية. ولغتهم مزيج شبيه. وحتى احرفها لا تشبه شيئا نعرفه. ولذلك لا صلة لك مع العالم، الا خضراء الصحف. كل صباح. في براغ او في ملحقاتها. عبرها يعود اليك العالم العربي، حتى تكاد تنسى ان جميع الجالسين في بهو الفندق يشبهون الرفيق مالينكوف، او جوكوف، او مولوتوف، او خروشوف.

الى اللقاء