بنفس السرعة: نحن نكتب وأنت ترفض!

TT

لم تعد الكتابة السياسية فنا محترماً، لا لأنها ليست كذلك، ولكن لكثرة الذين يقترفونها، وهم يقترفونها لسهولة تعاطيها، وسهولة رفضها أيضاً.

مثلاً: لكي تكتب مقالاً سياسياً، هناك عناصر ضرورية لصناعة هذا الدواء لكل داء إنساني: أن تشتم أميركا عمال على بطال، وأن تشتم إسرائيل، أما أنهما يستحقان ذلك، فأنت وأنا على حق.

ولكن أن نسوق إلى المعركة السياسية مثل هذه الكلمات التي نرددها ليلاً ونهاراً ، نرددها لأنفسنا، أي نكلم أنفسنا على مسمع منا نحن، وليس من أميركا وإسرائيل، فهذا ليس أسلوباً سياسياً، ولا نهجاً فكرياً، ولا نظرية فلسفية، وإنما كلام في كلام، نقول هذه الطلاسم: الاستمرارية والعولمة والشرعية والأسلمة والتهميش والتثمين والترسيخ والتكريس.

يكفي أن نضع هذه الكلمات في عبارات، ليس من الضروري أن تكون مفيدة، إنما تبدو غليظة مشدودة مثل وجه رجل يخطب ساخطاً غاضباً، كأنه يعرف الذي ضاع، وكأنه يعرف كيف يستعيده.

وحتى لا أكون أنا أيضاً طلسماً أقول لك ما أريد أن أنقله إليك: نحن نظلم أنفسنا، ونحن لا نخاطب الأميركان ولا نخاطب اليهود، فهم لا يعرفون عن حقوقنا أي شيء، ونحن نتوهم أنهم يعرفون ويغالطون، إننا بلا منابر عالمية نقول فيها ونهاجم وندافع ونحشد، الأميركان عندهم كل وسائل الإعلام العالمية الجبارة، وإسرائيل لها كل ما يملكه الأميركان والأوروبيون، ولها هي أيضاً منابرها وميكرفوناتها وشاشاتها، تقول وتعرض وتشرح بكل اللغات، وبالمنطق وبالعقل.

إن رجلاً مستشرقاً مسلماً واحداً استطاع ذلك، وهو رئيس البوسنة والهرسك عزت بيجوفيتش، عندما شرح الإسلام بأسلوب فلسفي عذب، وأسلوبه نموذج لما يجب أن يكون عليه الحوار والنقاش والأدلة المقنعة.. إنه لايشتم ولا يلعن ولا يبهدل ولا يهدد، وإنما تكلم بلغة الأوروبيين ومنطقهم فاستحق احترامهم واحترامنا أيضاً، ونحن في السياسة نتكلم بأسلوبنا نحن، وهو أسلوب كليل عليل، ونظن أننا قلنا وأننا أقنعنا، وأنهم هم الذين لا يصدقون ولا يقتنعون. ارني قناة واحدة، شاشة واحدة، صحيفة واحدة، تقول كلاماً بالعقل والمنطق وليس بالشتائم وأسلوب القافية: أبوك وأمك، والذين أتوا بك إلى دنيا الشرق الأوسط ...إلخ. مثل هذه العبارات التي لا وزن لها إلا عندنا.

يعني إيه؟

يعني أن الحق معنا، ولكن لا نعرف كيف ندافع عنه، ولا كيف نقنع غيرنا. لماذا؟ لأننا نتكلم في أكمامنا، وليس في قنوات عالمية بأسلوب علمي، ولذلك لم نتقدم، ولا نستطيع أن نلحق بالآخرين الذين نشروا دفاعهم وشكوكهم وأكاذيبهم في كل مكان، في كل قناة وكل شاشة وكتاب وفيلم، ونحن ـ العرب ـ نغمز ونلمز ونهمز، ونسمي ذلك فكراً سياسياً ونظريات علمية، وحشداً نضالياً، وأترك لك باقي الصفحة لتضع فيه ما تحفظ من التراكيب والطلاسم اليومية، التي لا نهاية لها، ولا معنى ولا أمل في أن نتخلص منها. إن سياستنا مثل قميص بنيلوبه في إلياذة هوميروس: الذي تعمله ليلاً تفكه نهاراً، ومثل الفتى (سيزيف) الذي يدفع أمامه حجراً إلى أعلى الجبل ويسقط إلى السفح ليدفعه إلى أعلى، فلا استقر فوق ولا استقر تحت. إنها دوخة سياسية، لأنها ليست سياسة وإنما انعدام للسياسة.