السعودية: لماذا هي (بيئة مؤهلة) للاجتهاد الفقهي الموسع والمتنوع؟

TT

لهذا المقال: ميقاته الزمني المسبب ـ موضوعيا ـ بأسباب منها: سبب المراجعة الجديدة لكتاب: أحمد بن حنبل، تأليف الشيخ محمد أبي زهرة.. وسبب رفد هيئة كبار العلماء في السعودية بوجوه علمية جديدة.. وسبب تصحيح مفهوم جد خاطئ، يحصل الالحاح كثيرا على ترويجه في هذه الأيام: مفهوم أن (الحنبلية)!! قرينة التعسير والتشدد والجمود حتى شاع بين العوام (ومنهم متعلمون ومثقفون)!! مفردة (أنت حنبلي) إذا أرادوا وصف أحد بالانغلاق والتزمت و(ضيق الأفق).. وسبب الحاجة المتزايدة إلى الاجتهاد الواسع النطاق.. فالسعودية (دولة ناهضة) في كل شيء: في التعليم والادارة والصناعة والحراك الاجتماعي والثقافي والإعلامي والعلاقات الخارجية: السياسية والثقافية والاقتصادية وما تقتضيه من اتفاقات ومعاهدات ومواثيق وتعاملات لا تكاد تحصر. وبلد هذه نهضته: يتطلب تجددا ناجزا، واجتهادا وثابا نضرا فسيحا في تلك المجالات جميعا.. فالحقيقة الموضوعية القانونية تقول: إن السعودية يحكمها الاسلام ـ الكتاب والسنة ـ.. وبمقتضى هذه الحقيقة الدستورية: تبرز وظيفة علماء الدين. فهم مفسرو القرآن، وشارحو السنة، وهم المفتون والقضاة والمستشارون في مجال اختصاصهم (العلوم والأمور الشرعية).. وبدهي ان هذه الوظيفة لا تؤدي إلا بـ (الاجتهاد الموسع المتنوع) الذي يسهم بحظ عظيم في رسم خريطة حركة المجتمع والدولة: في الحاضر والمستقبل.

ومن حسن الخط، وعلامات التوفيق: ان (البيئة السعودية مؤهلة لهذا الاجتهاد الفقهي المستبحر).

كيف؟

أولاً: لأنها بيئة الكتاب والسنة، ليس من حيث التنزيل ـ بادئ ذي بدء ـ. بل ـ كذلك ـ من حيث تجديد (الارادة الدستورية) على جعل الكتاب والسنة هما (المرجعية العليا) للدولة والمجتمع، وهي مرجعية نص عليها الدستور، أو النظام الأساس للحكم.. فهي ـ من ثم ـ (بيئة الدليل والبرهان)، لا (بيئة التقليد). فالرجوع الى الكتاب والسنة يتجاوز آراء الرجال، إلى ما قاله الله ورسوله. وهذا هو المنهج الحق: «يا أيها الذين أمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله».

وعلى عكس ما يظنه ما لا علم له، فإن الاتصال البصير بنصوص الكتاب والسنة هو أوسع أبواب التجديد الرطيب، والاجتهاد الخصيب.

1 ـ فمن مفاتح الاجتهاد ومنابعه في القرآن:

أ ـ «كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته وليتذكر أولوا الألباب».. فمن حكمة إنزال الكتاب. ومن مقاصد ذلك: إعمال العقل والفكر في تدبر آيات القرآن.. يؤيد آية (ص) هذه: اية (النحل).. :«وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون».. نعم.. نعم.. أجل.. أجل: يتفكرون فيما نزل إليهم: يتفكرون في القرآن.. ومما لا ريب فيه: أن أهم وأجدى وأبدى وأسمى أدوات الاجتهاد ومفاتحه: تشغيل العقل، واعمال الفكر.

ب ـ «هو الذي بعث في الأميين رسولاً منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وان كانوا من قبل لفي ضلال مبين. وآخرين منهم لما يلحقوا بهم وهو العزيز الحكيم ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم»..

ولقد بعث النبي ليتلو على الصحابة الكتاب ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة. وكان الدين ـ يومئذ ـ جديداً غضا. فأخذ الصحابة حظهم الوافر من فضل الله في العلم والحكمة. فهل لمن جاء بعدهم (حظ) من العلم والحكمة.. نعم.. نعم.. أجل.. أجل. فالآية تنص على أن فضل الله في العلم والحكمة سينال الذين لما يلحقوا بهم (وهو تعبير لغوي ينتظم الاجيال كلها التالية للصحابة الى يوم القيامة).. فكيف تنال الاجيال المسلمة في مختلف العصور: حظها من العلم والحكمة؟.. لا تنال هذه الحظوظ إلا بالتجديد والاجتهاد، وهو حظ سماه القرآن (فضل الله).. ومتأل على الله، راد لفضله، محجر لرحمته الواسعة: من يزعم ان حظ الفهم السديد الجديد للاسلام محصور في الصحابة، وأن الاجتهاد في الدين قد أغلق بابه، وجفت ينابيعه.. وثمة ضميمة عميقة لطيفة ـ ها هنا ـ وهي: أن الآيتين السابقتين ـ من سورة الجمعة ـ قد اتبعتا مباشرة بآية: «مثل الذين حملوا الثوراة ثم لم يحملوها كمثل الحمار يحمل أسفاراً».. وفي هذا تحريض للمسلمين على الفهم والاجتهاد لئلا يكون حالهم كحال أقوام يحملون كتبا لا يفقهونها. ولا يعلمون ما فيها: علما صحيحا باعثا على الفهم السديد، والتفكير الرشيد: في دين ودنيا.

2 ـ ومن مفاتح الاجتهاد ومنابعه في السنة: قول النبي: «ان الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة عام من يجدد لها دينها».. وفي الحديث مفاهيم تناهت في السداد والكمال والجمال.. من هذه المفاهيم: ان التجديد لا يكون الا بالاجتهاد، وإلا فكيف يجدد الدين من فقد القدرة على النظر والتجدد العقلي.. وان التجديد ينبغي ان يكون (دوريا) ـ لا مرة واحدة في التاريخ ـ. وذلك حتى لا تأسن حياة المسلمين، ولا تتعطل مصالحهم، ويغشاهم الحرج من كل مكان.

ثانياً: البيئة السعودية مؤهلة لاجتهاد فقهي مستبحر، لأنها بيئة يغلب عليها الأخذ بمذهب أحمد بن حنبل.

ومذهب أحمد بن حنبل هو مذهب (الدليل)، لا مذهب (التقليد).. فالإمام الكبير يصدر عن الكتاب والسنة: قبل كل شيء، وفي كل شيء.. ونحن نقدر أن تعدد أقوال الامام في المسألة الواحدة يرجع إلى هذا ـ في الغالب ـ: يرجع إلى الدوران مع الدليل أبدا: يقول في المسألة قولا، فإذا تبدى له دليل جديد أخذ به، فإذا ظهر دليل أقوى من الدليل الجديد أخذ به.. وهكذا.

ومن أحسن ما كتب ـ في هذا العصر ـ عن الامام أحمد بن حنبل: كتاب بهذا الاسم من تأليف الشيخ محمد أبي زهرة.. ومن المحاور التي اجتلاها الشيخ أبو زهرة: محور استمساك احمد بن حنبل بالدليل والأثر، وهو استمساك: جعل مذهبه مذهب دليل واجتهاد.. يقول أبو زهرة: «ولا يظن القارئ ان اعتماد أحمد على الآثار في فقهه: يجعل فقهه جامدا، أو بعيداً عن حاجة الحياة والاحياء، فإن الواقع غير ذلك.. ففي المعاملات الدنيوية كان في التحريم والتأثقيم يستمسك أشد الاستمساك بالنصوص والآثار السلفية حتى لا يحرم ما أحل الله، ثم يترك الأمور التي لم يقم فيها دليل التحريم: على الاباحة أو في مرتبة العفو.. وقد كان الأصل الموسع، وهو جعل معاملات الناس على أصل العفو أو الاباحة: سببا في ان كان المذهب الحنبلي أوسع المذاهب في اطلاق حرية التعاقد، وفي الشروط التي يلتزم بها العاقدان، فأقر من الشروط ما لم يقره غيره من الفقهاء.. فقد أخذ باستصحاب حال الاباحة أو العفو أو البراءة الأصلية، وكان فيها تسهيل على الناس، واتسع بسبب ذلك: هذا المذهب الأثري الكريم لما لم تتسع له مذاهب أخرى، قامت على الرأي والقياس. ذلك لأن الاستمساك بالنص والأثر. كان سببا في تصعيب التحريم. وفي ذلك تسهيل كبير على الناس، وتوسيع لأفق التحليل».. ويقول: «واذا كان باب الاجتهاد مفتوحا، واذا كان العلية من أصحاب أحمد واتباعه قد استنكروا أن يخلو زمن المجتهدين، فإن المذهب يكون ظلا ظليلا لأحرار الفكر من الفقهاء. ولذلك كثر فيه العلماء الفطاحل في كل العصور. وبعض العلماء كان اذا اطلع على ما في ذلك المذهب الأثري (المعتضد بالنصوص والآثار) من خصوبة، وحرية البحث، ورجوع إلى الأثر يطرح مذهبه الذي كان يعتنقه، ويلجأ الى ذلك المذهب الواسع الرحاب، الخصب الجناب. فإذا قل عدد معتنقيه من العامة وأشباههم، فقد كثر عدد معتنقيه من المجتهدين وأمثالهم.. وحسبه أن يكون فيه الامامان: ابن تيمية وابن القيم ليكونا عوضا عن الكثرة والأعداد، ولو كان المعدود أجناسا وأقاليم».. ويرد أبو زهرة ـ بقوة ـ التهمة المتعجلة التي أطلقها ابن خلدون وهي: ان قلة اتباع مذهب ابن حنبل مرجعها الى انه ليس مذهب اجتهاد.. يرد التهمة فيقول: لا كان أحمد فقيها مجتهدا. وكان اجتهاده مبنيا على أسس سليمة من السنة المروية والآثار الصحاح من أقضية الصحابة والتابعين.

وعلى ذلك نقرر: أن ابن خلدون لم ينصف أحمد عندما أشار بقلة اجتهاده».

ثالثاً: البيئة السعودية مؤهلة لاجتهاد فقهي موسع، لأن منهج الإمام أحمد بن حنبل يعتني ـ بوجه خاص ـ بـ (رفض البدعة) ولرفض البدعة المناوئة للسنة مقتضيان مثمران نافعان:

أ ـ مقتضى التوسعة على الناس في الدين الحق لئلا يضطروا أو يستسهلوا الابتداع.

ب ـ ومقتضى: تفجير أنهار من الفقه والفكر الرائق تجعل البدعة محض عكر أو تلوث يعرض الناس عنه، ويتحصنون منه.. فإذا كانت البدعة منكرا ينكر، فإن انهار الفقه هذه هي (المعروف) البديل: «ولا يأتونك بمثل إلا جئناك بالحق وأحسن تفسيرا».

ومن الفقه الجديد المطلوب: (قوة الحجة العقلية والكونية) في عرض الدين وحقائقه في هذا العصر.. يقول العالم السعودي عبد الرحمن بن ناصر السعدي ـ رحمه الله ـ: «أمر الله بالتفكر في السموات والأرض وما خلق الله من شيء. وأمر باستعمال العقل والفكر في آياته المخلوقة، وفي آياته المتلوة ليدرك الإنسان بعقله ما في المخلوقات من المنافع والآيات فيفقهها ويستعملها.. فهذا الدين الاسلامي يحث على الرقي الصحيح.. وحيث يطلق العلم يشمل العلوم الشرعية والكونية».