البعث: لا يُصلح العطار ما أفسد الدَّهرُ..!

TT

في إطار التنبؤات العاصفة التي تتحدث بأصوات مرتفعة حول تحولات جذرية متوقعة ستشهدها المنطقة العربية في الفترة القريبة اللاحقة، هناك جدل متصاعد حول مستقبل حـزب البعث العربي الاشتراكي، الذي بقي ينفرد بالسلطة في سوريا انفراداً كاملاً، رغم المشاركة «الديكورية» لما يسمى بالجبهة الوطنية، منذ الثامن من مارس (آذار) عام 1963 وحتى الآن.

من الناحية الرسمية، وكرد على كل ما يقال حول الاستحقاقات التي غدت تنتظر صيغة الحكم في سوريا عند المنعطف القادم، أخذت دمشق تبشر، منذ عشية إخراج القوات السورية من لبنان، بأن المؤتمر القطري لحزب البعث، الذي سيُعقد في يونيو (حزيران) المقبل بعد انقطاع طويل، سيكون محطة رئيسية على طريق التحول من الحالة الشمولية، التي لا تزال مستمرة منذ اثنين وأربعين عاماً، الى حالة الانفتاح والحريات العامة والتعددية السياسية والحزبية الفعلية.

ولِمَنْ لا يعرف هذا، فإن المؤتمر القطري بالنسبة لصيغ العمل في حزب البعث هو الاجتماع الدوري، الذي من المفترض ان يكون موعـــد انعقاده مقرراً مسبقاً وخلال فترة محددة، لكل ممثلي فــروع الحزب وشعبه وفِرَقِه في سوريا وفي أي «قطرٍ» من الأقطار العربية يوجد فيه تنظيم حزبي بعثي بحجم يؤهله لأن تكون له قيادة قطرية.

وكان هذا الحزب في ذروة مدَّه يعقد مؤتمرات أخرى، غير المؤتمرات القطرية التي يُعالج كل واحد منها شؤون «القطر» أو الإقليم أو البلد المعني، تسمى المؤتمرات القومية التي تَجْمعُ ممثلي التنظيمات الحزبية البعثية على الصعيد القومي، أي في كل الدول العربية. ولعل ما تجدر الإشارة إليه على هذا الصعيد هو أن أهم المؤتمرات القومية التي عقدها حزب البعث، عندما كان لا يزال موحداً وقبل ان يصبح ابتداءً بعام 1966 حزبين هما البعث السوري والبعث العراقي، هو المؤتمر القومي السادس الذي انعقد في دمشق في عام 1963، والذي تبلور خلاله تياران أحدهما اعتبر التيار اليساري الأقرب الى الماركسية ـ اللينينية والآخر اُعتبر التيار اليميني الذي بقي محافظاً ورفض رفضاً قاطعاً مقولة الاشتراكية العلمية.

إن هذه ملاحظة، كان لابد من إيرادها والإشارة إليها، أما الملاحظة الثانية فهي ضرورة إيضاح أن حزب البعث بجناحيه، الجناح الذي كان يحكم في العراق منذ عام 1968 وحتى التاسع من إبريل «نيسان» 2003، والذي يتهمه الجناح الآخر بأنه رجعي ومحافظ، والجناح الذي لا يزال يحكم في سوريا والذي يعتبر نفسه تقدمياً وقريباً من الماركسية ـ اللينينية، بدأ يفقد صيغته التنظيمية القومية الفعلية منذ وصوله الى الحكم، وأن امتداداته في بعض الدول العربية غدت امتدادات سياسية وأمنية خاضعة لعلاقات البلد الذي يحكم فيه مع هذه الدول العربية.

والآن وبالعودة الى ما يقال رسمياً في دمشق بأن المؤتمر القطري الذي سينعقد في فترة لاحقة قريبة جداً سيستجيب لكل تطلعات الشعب السوري، نحو مواكبة منطق وحالة ووضعية القرن الواحد والعشرين، فإن ما يمكن استقراؤه، على أساس واقع الحال والتجارب السابقة وتركيبة هذا الحزب نفسه ولياقته السياسية، لا يوحي بالأمل ولو بالحدود الدنيا بأن هذا المؤتمر المرتقب سيكون، كما يقال عنه، نقطة تحول من مرحلة قديمة الى مرحلة جديدة منتظرة وأنه سينتقل بسوريا من واقع عقد ستينات القرن الماضي الذي لا يزال سائداً حتى الآن، الى مشارف هذا القرن الجديد.

إنه من المستحيل المراهنة على حزب، غدا مصاباً بالروماتيزم وتصلب الشرايين وبات يعاني من أعراض الشيخوخة، واستمرأ الانفراد بالسلطة، بأن يحقق في سوريا التي بقي يحكمها لاثنين وأربعين عاماً، وأوصلها سياسياً واقتصادياً واجتماعياً الى ما وصلت إليه، نقلة نوعية تخرجها من هذه الاوضاع المتردية، وتضعها في المكان الذي تستحقه ويستأهله شعبها في قاطرة التطور العالمي المتحركة الآن بسرعة هائلة.

لا يمكن ان تنفع المعالجات التسكينية، لا مع هذا الحزب ولا مع ما أصبحت تعاني منه سوريا، اقتصادياً وسياسياً واجتماعياً وتقنياً وعلى كل الأصعدة، ولذلك وبما ان استحقاقات ما بعد انتهاء الحرب الباردة قد أزاحت من طريقها حزباً بحجم الحزب الشيوعي السوفياتي، وبأحجام الأحزاب الشيوعية في كل دول أوروبا الشرقية، فإن صمود حزب البعث (السوري) في الخندق القديم الذي لا يزال يرابط فيه، بات مسألة وقت فقط وسواءً عقد مؤتمره القطري المقبل أم لم يعقده.

لا مجال أمام هذا الحزب إلا أن يفعل ما فعلته الأحزاب الشيوعية في بعض دول أوروبا الشرقية، كالمجر ورومانيا وبلغاريا، وهو ان يتغير تغيراً كاملاً وان يتحول بالأفعال وليس بمجرد الأقوال من حزب قائد وحاكم وحيد، الى حزب يقبل بالمنافسة الشريفة وبالتعددية السياسية وبالرأي الآخر، وبالاحتكام الى صناديق الاقتراع.

ربما يستطيع هذا الحزب إجراء بعض الجراحات التجميلية لتحسين صورته في عيون أبناء الشعب السوري، وليوحي لمن يراقبونه من الخارج بأنه وضع أقدامه على بداية طريق المسيرة العالمية، التي عنوانها تحول النظام العالمي من الوقوف على قدمين هما القدم الشرقية والقدم الغربية، الى الوقوف على قدم واحدة هي قدم الولايات المتحدة الأميركية.

لكن ما يجب ان يكون معروفاً منذ الآن، أنه من غير الممكن ان تستطيع سوريا فعل ما فعلته الجماهيرية الليبية، وان يقوم الرئيس بشار الأسد بما قام به العقيد القذافي. فالأوضاع هنا مختلفة عن الأوضاع هناك، وما تملكه طرابلس الغرب من أوراق تقدمها للولايات المتحدة وللغرب عموماً، لتحمي نظامها، لا تملك منها دمشق اي شيء، ثم هي حتى وإن كانت تملك مثل هذه الأوراق فإنها لا تستطيع فعل ما فعلته الجماهيرية القذافية العظمى..!.

إن هناك جمراً كثيراً يتأجج ويتقد تحت رماد الوضع السوري، ولذلك فإن مراهنة دمشق يجب ان لا تكون على المؤتمر القطري المقبل، فهذا الحزب غدا حصاناً هرماً لا تجوز المراهنة عليه.. والمثل يقول: «لا يُصْلِح العطار ما أفسد الدَّهرُ»..!!.