بين لبنان المقيم ولبنان «الأوف شور»

TT

لم يكن اللبنانيون بحاجة الى امتحان الانتخابات الاولى بعد الانسحاب السوري ـ أو إعادة الانتشار السادسة حسب تعبير رئيس الحكومة السورية محمد عطري ـ ليكشفوا عن عوراتهم السياسية المزمنة: الطائفية المعززة بالمذهبية والاقطاعية المكرسة بالمحاصصة.

لماذا المكابرة؟

فرصة التقاط المنعطف السانح للبدء ببناء وطن لكل اللبنانيين، انطلاقا من مشاعر الوحدة الوطنية التي تجلت في مظاهرات 14 مارس (آذار) في بيروت... أصبحت في ذكرى التاريخ وذمة المتهافتين على كراسي السلطة.

ولكن لو لم يكن الجدل الحاد حول قانون الانتخاب والمفارقات التي أفرزها على صعيد تحالفات خصوم الأمس هما الحدثين الطاغيين على ما عداهما من احداث انتخابية، لكانت الايام الاولى لعودة الجنرال ميشال عون الى لبنان الشأن الاكثر استحقاقا للمتابعة.

واضح أن الجنرال عون لم يتأقلم بعد مع المناخ السياسي في لبنان رغم ممارسته الشأن العام من «منفاه» الحضاري، ولا نقول المرفه، في باريس.

قد تصح في الجنرال المقولة اللبنانية الشعبية: «روما من الفاتيكان غير روما من تحت الشجرة»... فلبنان التحالفات الانتخابية غير لبنان الولاءات السياسية المتقاطعة مع الفسيفساء المذهبية والاعتبارات المناطقية... واللافت في الخطاب السياسي للجنرال عون، بعد عودته الى لبنان، أنه لا يأخذ في الاعتبار الردة اللبنانية النفسية على نظام العسكريتاريا الذي خضع له، وباشكال متنوعة، منذ انتهاء حربه الداخلية، فمنذ اللحظة الاولى التي وطأت فيها قدماه مطار بيروت وتصرفات الجنرال مع الآخرين، وحتى مع محازبيه، توحي بأنه لم ينعتق بعد من تنشيءته العسكرية وان الخلفية العسكريتارية لا تزال تتحكم في رؤياه السياسية.

قد تكون هذه الخلفية وراء شعور الجنرال بانه «مطوق» ـ حسب تعبيره ـ لمجرد احجام وليد جنبلاط وسعد الدين الحريري عن التعاون معه انتخابيا، ووراء تجاهله البعد السياسي الداخلي لتركيبة لائحة الحريري في بيروت ولائحة جنبلاط في الشوف والذي يجعلهما لائحتي إزالة مخلفات الحرب الاهلية لا العودة الى متاريسها.

هذا لا يعني انهما لائحتان مثاليتان لتحقيق الوحدة الوطنية ولكنهما، على الاقل، يجمعان الخندقين الرئيسيين في حرب لبنان الداخلية.

إن صح شعور الجنرال بانه عرضة «لمؤامرة تطويق» فقد يكون المستهدف بالتطويق ليس الجنرال ولا خط الجنرال ـ ولا احد ينكر وطنيتهما ـ بل محاولته احتكار انجاز الاستقلال الثاني للوطن الصغير وحصره «بلبنان الاوف شور» ـ الذي يدعي تمثيله ـ من دون الاعتراف باي دور يذكر «للبنان المقيم»، ولبنان المقيم كان خط التماس الاساسي في معركة السيادة فأبناء الداخل عانوا ماعانوه من ملاحقة وسجن وتعذيب وحتى «اختفاء» في ظل «الوجود السوري»، وقادة الداخل نالوا ما نالوه من إهانات وترهيب وتهديد بدأت بمحاولة اغتيال النائب مروان حمادة لتبلغ قمة إجرامها في اغتيال الرئيس رفيق الحريري والنائب باسل فليحان ورفاقهما.

مشكلة الجنرال عون الحقيقية مع المعارضة اللبنانية هي مشكلة لبنان المقيم مع لبنان «الاوف شور».

وإذا كان من الاجحاف إنكار مساهمة الجنرال عون في الحملة الاعلامية التي جيّشت الضغوط الدولية على سورية وحملتها على سحب قواتها ومخابراتها من لبنان، فإن سعي الجنرال لمصادرة هذا الانجاز التاريخي واختصاره «بلبنان الاوف شور» لا يشجع لبنان المقيم على توقع تخليه عن الاوهام التي غذتها سنوات النفي ليبدأ مسيرة التأقلم مع اللعبة السياسية المحلية بالواقعية التي تقتضيها معطيات المرحلة.