أوراق عن سورية أي اشتراكية؟

TT

أمضيت في تموز الماضي بضعة أيام في دمشق. والتقيت للمرة الأولى وزير الإعلام الأستاذ محمد الحسن في مجلس عزاء، فأصرّ على إقامة غداء للضيف. وسألني من أحب أن يدعى، فقلت أصدقاؤك أصدقائي. وحضر وزير الإعلام اللبناني الأستاذ ميشال سماحة. بعض سفراء سورية في الخارج. وزميل من لبنان، معروف بصداقاته في دمشق.

وإذ نحن نتحدث في أمور كثيرة خاطبني الزميل اللبناني من بعيد، قائلاً بلهجة المدّعين العامين: «لقد لاحظت قبل أسبوعين أنك كتبت مقالاً تهاجم فيه الاشتراكية، فأي أذى آذتك الاشتراكية به؟». وخامرتني مشاعر صغيرة من النوع الذي يُفقِد الأعصاب. وقلت للزميل الممثل الادعاء العام: «لقد انتقدت الاشتراكية في جريدة يقرأها الألوف كل يوم، وليس في تقرير سرّي. وإذا كنت تريد أن تُسمع وزير الإعلام، فهو يقول إنه يقرأ «الشرق الأوسط» أول شيء في الصباح. أما الاشتراكية التي هاجمتها وأهاجمها باستمرار فهي الاشتراكية العربية الفاشلة. هي الاشتراكية التي سلبت الإنسان العربي حريته وزادت الفقراء فقراً وخلقت طبقة جديدة من الأغنياء. ولهذه المناسبة أرجو أن تتكرم وتقرأ ما أكتبه عن اشتراكية السويد أو اشتراكية كندا والنروج. أما الاشتراكية العربية فاعذرني».

لم أجد، للأسف، ما يُمتدح في التطبيق الاشتراكي في سورية على مدى 40 عاماً. ولا في مصر. ولا خصوصاً في بلد شديد الثراء مثل العراق. لأن الاشتراكية وضعت من أجل الإنسان لا من أجل النظام. ومن أجل بسط الكفاية لا من اجل نشر التفاوت. وإذا لم يكن هناك كلام يقال في «اشتراكيات» أوروبا الشرقية التي حققت نذراً ما، فكيف عن «الاشتراكيات» العربية.

ظن سعادة المدّعي العام أنني سوف أعتذر وأتراجع ما دمت في دمشق. أو، اعتقد أنه يستكثر على وزير الإعلام تكريم كاتب معاد للاشتراكية! وقد خاب. والآن إذ تقرأ في الرسائل القادمة من دمشق أن القيادة السورية سوف تلغي الاشتراكية من شعارها الآيديولوجي خلال مؤتمر القيادة القطرية لحزب البعث «العربي الاشتراكي»، أشعر برغبة صادقة في كتابة بعض الملاحظات الوجدانية التي لا علاقة لها بالتحليل أو التنظير أو ادعاء الحياد. فأنا هنا على مسافة نسمة من دمشق، تفرحني أحيانا، وتغمني أحيانا، وتعكّر مزاجي إذا حملت إليَّ الخوف أو القلق! ليس الخوف على لبنان أو القلق عليه، فقد ولدنا في هذه الحالة «الطبيعية» وتعودنا شواذها، وإنما القلق على سورية، لأن أي هبة فيها زلزال في لبنان، وأي ألم فيها، وجع في لبنان، وأي خلل فيها انهيار في لبنان.

ولست أستخدم كلاماً «كبيراً» من أجل تعظيم الأمور ولا تهويلاً على أحد. بل هو كلام من قناعات الفكر وبساطة الوجدان، والحرص على أن نكون معاً في مستقبل حصين. ليس فقط كسوريين ولبنانيين، بل كعرب وسوريين. جميع العرب. فالقربى ليست فقط في الحدود، بل إن التجاور بين الدول أو بين الناس يغرق الجميع في القضايا الصغيرة. وما هو أهم بكثير هو قربى المصير والوجود والتفاعل والإطار، أو النظام الذي سنعيش فيه جميعاً، في عالم متغيّر، أسرع أحيانا من دوران الأرض، ومن تقلبات الأزمان.

وأعترف بأن اللبناني يجد حرجاً في الكتابة عن شؤون سورية، وخصوصاً في مراحل التحول المعقد. بعكس الزملاء السوريين الذين لا يزالون يعاملوننا، بعد 85 عاماً على قيام لبنان، بأننا لقطاء في أرض لا نملكها وأيتام في مأوى مؤقت وأننا لولا سايكس وبيكو لكنا الآن تائهين في الأرض.

في العقود الأربعة الماضية إما وقفت مع سورية بلا تحفظ أو تمنعت عن الكتابة حيث لم أكن مقتنعاً. وكان يصلني من الرئيس حافظ الأسد، عبر مسؤولين مثل الأستاذ فاروق الشرع، بعض كلام الرضى والاستحسان. ليس فقط عما أكتب، بل أيضا حول المقابلات التلفزيونية. وأكذب جداً إذا لم أعترف بأن ذلك كان يفرحني. وذات مرة أجرى معي التلفزيون السوري مقابلة لاحظت أنها بثت خمس مرات. فسألت ماذا يعني ذلك، فقيل يعني أنها استحسنت من فوق، ولا تفسير آخر.

ماذا قلت في تلك المقابلة على التلفزيون السوري وفي التي بعدها وبعدها وبعدها؟ قلت ما أعتقده. وتجنبت كل كلام خادع. ولم أردد كلمة أو تعبيراً من تعابير الجوقة اللبنانية. ليس لأنني كنت أخشى أن أفقد ثقة الرئيس الأسد، بل لأنني كنت أخاف أن أفقد احترام المواطن السوري العادي، وذكاءه الموصوف، ومعرفته الفائقة بواقع الحال بين سورية ولبنان. وكنت أخشى خصوصاً أن أفقد احترامي عند أصدقائي في دمشق من مسؤولين وحزبيين وعاديين، وهم كثيرون، وأعزاء، ومن كبارهم ومشاهيرهم، وهم لا يبخلون عليّ بملاحظة، ولو كنت في الصين.

إلى اللقاء