سورية والطريق للمؤتمر العاشر: الرفيق فرانكو.. والقواعد الحزبية المهاجرة

TT

يحكى أن الجنرال فرانكو في أيامه الأخيرة، وقد ضربه المرض واشتد عليه النوم الطويل،استيقظ لبرهة بعيد ظهر أحد الأيام ليسمع «ضوضاء وجلبة وأصواتا خارج قصره فسأل سكرتيره الخاص: ما الذي يجري في الخارج.. من أين تأتي هذه الأصوات؟

أجابه سكرتيره النبيه: انه الشعب الإسباني وقد جاء ليودعك..!

رد الجنرال فرانكو: يودعني؟.. هل الشعب الإسباني مسافر.. وإلى أين؟!

أطبقت عليّ هذه الحكاية المعبرة وأنا أتأمل وضع بعض قيادة حزب البعث ممن ضربهم النعاس والنوم الطويل، وشلّ قدراتهم وتفكيرهم وجعلهم في ثبات منذ فترة ليست قصيرة.. واليوم وبعض قواعد هذا الحزب.. ورموز جيله الجديد وهي على ضفاف المؤتمر القطري العاشر لحزب البعث إذ ترنو مودعة ذهنية قديمة ورجالات سبقتهم الأيام والأحداث وغاب عنهم نبض الشارع وحراكه السياسي..

يبدو للفريق النائم وكأن الحزب وقواعده يستعدون للسفر إلى بلاد بعيدة ! وهم في مناصبهم يتمسكون!!

وعلى ذلك ينام السوريون على خبر ويستيقظون على آخر.. البعض يرى أن المؤتمر سيجترح المعجزات والبعض الآخر يرى فيه إعادة مملة لإنتاج أدوات قديمة، ولغة لم تعد تنفع في زمن متغير، متبدل، يجره «الإعلام» من عنقه ويأخذه إلى حيث يشاء..

والسوريون البارعون في التحليل والتركيب والجدل الذي لا ينتهي، يستطيعون تصدير قرابة مائة رواية في اليوم حول ما سيحدث.. وكيف سيحدث.. ولماذا سيحدث.. من غير أن نقرأ جملة واحدة في وسائل الإعلام الرسمي... والطريف أن قيادة الحزب الحالية تعرف أن كل جملة وكلمة وفاصلة ستصل إلى الناس فوراً، بغير دروب الإعلام الرسمي المغلقة حتى إشعار آخر..

وسط هذا «التناقض الصارخ» بين ما تراه بأم العين قيادة الحزب وما تمارسه وبين ما تسمعه عبر وسائل متعددة وما تقوله، وبين ما تريده القواعد وما تسعى إليه هذه القيادة الهرمة، وسط هذا كله تشهد البلاد نقاشات ساخنة حول المؤتمر من الألف إلى الياء..

وفي هذا الإطار يمكن رصد ثلاثة اتجاهات بدأت تتبلور داخل المجتمع السوري:

الاتجاه الأول: يحمل المؤتمر أكبر من طاقته ويرى فيه انقلاباً أبيض يفتح الباب على مصراعيه لقرارات ثورية تبدأ من تحسين الدخل ولا تنتهي برسم التوازنات الإقليمية وفق منظر جديد، ويرفع هذا «الاتجاه» سقف نتائج المؤتمر إلى أقصى حد ممكن، لدفع الجمهور بعد إنجاز أعماله إلى صدمة حقيقية وإحباط اكيد يتولد من الفرق الكبير بين ما يصدر من قرارات وما هو منتظر!

الاتجاه الثاني: ينسف المؤتمر من أساسه، حتى قبل أن ينعقد على خلفية أن التغيير سيحدث في جزء من الشكل وبعض الوجوه ليس إلا، ويتكئ هذا الاتجاه على سلبية مفرطة، هدفها تحجيم المؤتمر وإغلاق الدروب إليه قبل انعقاده، وتكريس حالة خاصة يمتزج فيها اليأس بالإحباط بالاعتقاد أن الحل لن يأتي سوى من الخارج، وأن «الحزب» الذي هو أداة النظام الأساسية قد شلّ وتحول إلى عبء ومن الأفضل دفنه «حياً»!

الاتجاه الثالث: يرى في المؤتمر فرصة حقيقية لحوار صريح وجاد يؤسس لتحول منطقي في الشكل والمضمون: شكلاً حيث يحتاج الحزب إلى فحص دقيق لبنيته التنظيمية وآليات عمله ووسائل حمايته من داخله، ومضموناً في «دوره الريادي» الذي غاب من جراء سياسات قصيرة النظر، تسبب فيها نفر قليل من قيادته بعدما تم احتكار الحكمة والفكرة والعمل السياسي طوال السنوات الماضية، والدفع من خلال هذه الممارسات إلى جعل البعثي (سوبرمان) يحق له ما لا يحق لغيره، في بلد يتساوى فيه المواطنون جميعاً أمام القانون وهذا ما قدم الولاء الشخصي على الكفاءة، فأوصل إلى الإدارات والمفاصل الرئيسية أشباه رجال، وأغلق الباب على الكفاءات والخبرات التي أُبعدت أو نأت بنفسها بعيداً تنتظر نهاية ما لهذه السياسة الإقصائية قصيرة النظر.

من هنا يمكن فهم التعثر الظاهر في العمل العام في المؤسسات ودوائر الدولة بفضل «أناس» يتحكمون بحركته لا هم لهم سوى إرضاء من رشحهم أو حماهم أو استفاد منهم، أو غض الطرف عن أخطائهم إن لم نقل غير ذلك.

ومن غير أن نتسلل خارج السياق المنطقي للموضوع نفتح قوسين لنقول ان هذا هو المحرك الرئيسي للفساد!

وفي العودة إلى قراءة أضلاع الاتجاه الثالث الذي نؤيد وتؤيده الأغلبية السورية، يمكن القول ان المفتاح الرئيسي في التغيير هو الإجابة على سؤال: كيف يعود الحزب إلى جمهوره.. وكيف يعود الجمهور إلى حزبه!؟

وهذا يتطلب أولاً جرأة في الإقرار أن السياسيات قصيرة النظر التي أدارها البعض قد وسعت الهوة بين الناس البسطاء والحزب الذي يدير البلاد والعباد وفق الدستور. ويتطلب ثانياً رغبة في الاعتراف بالأخطاء، وهي فضيلة لا يتقنها الكثيرون ويتطلب ثالثاً إيجاد الآلية الجدية للاستفادة من الأخطاء وتصحيح المسار مع العلم أن توصيات المؤتمرات السابقة لم تجد ـ بمجملها ـ طريقاً للتنفيذ ولا آلية للمتابعة.

ولذلك لا يمكن القفز فوق معادلات التوازن المطلوبة وفي المقدمة منها التمسك بالديمقراطية والانتخابات الحرة والنزيهة التي تجعل القائد الحزبي يعرف أنه أمام «امتحان صعب» اسمه الانتخابات.. الحزبية إن كان مكلفاً بالعمل الحزبي.. والانتخابات الشعبية إن كان قد كلف أو انتخب لعمل خارج الحزب.. وهذا وحده كفيل بجعل علاقته بالناس متوازنة وعاقلة لا تأخذه القوة إلى صلفها ولا يأخذه الاستهتار إلى قعره ولا تدفعه «الغفلة» إلى استغباء الناس والعبث بمصائرهم وهدر أموالهم..

الانتخابات دواء لكل الأمراض التي تعصف بالمجتمع.

ثم ان الانتخابات تنظف نفسها بنفسها.. فإذا جاءت في المرة الأولى بفريق «مغشوش» تلفظه في المرة الثانية وإذا جاءت بفريق غير متجانس تلفظه في التي تلي.. وهكذا..

حتى يصل أصحاب الأخلاق والكفاءة والعدل والشجاعة والجرأة لإدارة شؤون البلاد والعباد.. لأن الاحتكام إلى الناس أداة التوازن الأولى.

بالإتكاء على ما تقدم يصبح التغيير حاجة داخلية وليس وصفة خارجية تمليها اللحظة الدولية المحكومة بالخلل، يصبح التغيير باب العصرنة الوحيد الذي يلفظ «الفذلكات» الرخيصة عن الوصفات المطلوبة من الإدارة السورية الحديثة والتي يعرف القاصي والداني أنها صاحبة مشروع وطني، يستند إلى حق مشروع في الدفاع عن السوري، فوق أي أرض وتحت أي سماء وعن حقوقه التي اغتصبت بالاحتلال حيناً وبالتضليل حيناً آخر..

إنها لحظة الحقيقة وهي كالنحلة لسعتها مؤلمة.. وفي فمها الرحيق وللحديث صلة...

* كاتب سوري

عضو منتخب للمؤتمر القطري العاشر لحزب البعث