... بينما نبي الإسلام يعظّم التوراة.. ويؤثرها على نفسه بالوسادة..

TT

هل تطاول سفهاء في معتقل جوانتانامو على مقام القرآن العظيم؟.. لقد قالوا: إن هناك (تحقيقا) جادا يجري في هذه القضية.. والى ان تظهر نتائج التحقيق التي نأمل ألا يطول أمدها، وألا تشوه أو تكتم، لأن ذلك كله ليس في مصلحة الولايات المتحدة. فمن الأفضل لأميركا: ترليون مرة: أن تُعلن الحقيقة، وان يتحمل الفاعلون نتيجة ما وقع: لا أن تظل أميركا كلها موضع ريبة واتهام.. الى ان تظهر نتائج التحقيق، فإن الجواب عن السؤال الآنف يتجه في اتجاهين:

1 ـ الاتجاه الأول هو: انه يمكن ـ بمقتضى التقدير العقلي ـ: ان تكون تلك الاساءة قد وقعت.

ويستند التقرير العقلي إلى قرائن.. من بينها:

1 ـ وجود غلاة سفهاء متأهبين دوما لفعل ما لا يليق، وما لا يعقل، وما لا يطاق.

2 ـ وجود (مناخ مريض مسموم) أنشأ العداوة للقرآن والاسلام والتهجم عليهما، والقدح فيهما. فغداة احداث «سبتمبر 2001: اطلقت حملات ضارية من (الدعاية السوداء) ضد الاسلام ومصدريه: القرآن والسنة.. ولقد رصدنا ـ على سبيل المثال ـ هذه الاقوال التي جرت على ألسنة ساسة ورجال دين.. فمنهم من قال: ان إله المسلمين يحضهم على العنف، وعلى قتل الآخرين.. ومنهم من قال: إن الاسلام دين شرير وعنيف ومعتد ومؤذ.. ومنهم من قال: ان نبي الاسلام شخص متعصب وقاتل.. ومنهم من قال: ان القرآن هو مصدر العنف والارهاب.. وهذا بعض من كل يستغرق احصاؤه موسوعة كاملة: احترفت هجاء الاسلام، والتهجم على القرآن.

ولذا كنا نود ان يصمت وزير الدفاع الأميركي فلا يعجل بالنفي ـ بينما التحقيق لا يزال قائما ومفتوحا ـ، فإن هذا التعجل يستدعي مواقف سياسية غير مطمئنة: نفى فيها ما هو ثابت، واثبت ما ليس ثابتا، ولا سيما ان صحيفة واشنطن بوست قالت منذ يومين: ان الاساءة الى المصحف لم تكن الاولى من نوعها منذ وضع المعتقلون في سجن جوانتانامو. فقد سبق ان نشر الاعلام الأميركي والعالمي شهادات على لسان معتقليهم هناك تفيد بأن اساءات قد وجهت الى المصحف. ونقلت الصحيفة على لسان المرشد الديني السابق في المعتقل (جيمس بي) انه قال لها: ان الحراس اساءوا التعامل مع مصاحف السجناء مما ادى الى اضراب السجناء عن الطعام في مارس 2002، ولم ينهوا اضرابهم إلا بعد ان اعتذر الحراس لهم.. بيد ان هذه الملاحظ: لا تحجب أهمية التعليمات التي اصدرتها وزارة الدفاع الأميركية في الايام القريبة الماضية. فمن تلك التعليمات: «عدم وضع المصحف في اماكن مهينة مثل وضعه على الارض، وقرب الحمامات والمغاسل وحركة الاقدام والمواضع المتسخة».. ومن هذه التعليمات ـ كذلك ـ: انه لا يسمح إلا للأئمة والمترجمين المسلمين بلمس المصحف، كما يجب حمله بكلتا اليدين. ويفضل استخدام اليد اليمنى.

ولقد وقفت وزيرة الخارجية الأميركية (كونداليزا رايس) موقفا عاقلا: امتزج فيه الحرص على مصالح الولايات المتحدة وصورتها بالاحترام للاسلام ومشاعر المسلمين. فقد قالت: «ان معتقلي جوانتانامو ليسوا محتجزين بسبب دينهم، وانما بسبب اعمال ارهابية.. فالاسلام دين عظيم وهو دين سلام. ونحن هنا في الولايات المتحدة نحترم الاسلام، وهو الدين الاسرع نموا في الولايات المتحدة. وأميركا التي تقدر التنوع في المعتقد: تقدر الاسلام، هذا الدين العظيم.. ومن هنا، فإنه اذا ثبت ان هناك متورطين في الاساءة الى القرآن، فإن عقوبات رادعة تنتظرهم».. وهذا تقدير مسؤول للموقف. ذلك ان مثل هذه الامور الدينية البالغة الحساسية والدقة والمهيبة: لا يصلح فيها التورية والغموض والابهام والتلاعب الدبلوماسي.

ونحن من جانبنا، لم نكن نتمنى: ان تصدر هذه الاساءات السفيهة الشريرة ضد المصحف الشريف:

أ ـ لأننا لا نتمنى: ان يساء الى كتاب ربنا عز وجل.

ب ـ لأننا لا نتمنى مزيدا من التوتر والاضطراب والتردي في العلاقة بين الولايات المتحدة والعالم الاسلامي.

والمعنى الاخير: مربوط بما يليه، ومفتح له:

2 ـ الاتجاه الثاني في الجواب عن السؤال: مطلع المقال هو: انه قد تكون هناك اصابع او دوائر قد اصاب اصحابها الدوار والرعب من التحسن البازغ او النسبي بين أميركا والعالم الاسلامي.

فبعد توحلات مرهقة ومكلفة: على اكثر من صعيد، دخلت الولايات المتحدة ـ بمنطق مصالحها المجرد ـ في مرحلة مراجعة لسياساتها الخارجية، وتجاه العالم الاسلامي بوجه خاص، ففي السنوات العجاف ـ الحديثة العهد بالوعي والمسرح ـ: خسرت الولايات المتحدة كثيرا من مصداقيتها، وتشوهت صورتها أيما تشوه، على نحو مرعب جدا، كما خسر العالم الاسلامي. وقد لا تهمها خسائر العالم الاسلامي، ولكن ـ بالتوكيد ـ تهمها، بل تفزعها: الخسائر الفادحة التي حاقت بها.

ومن المقاصد النفعية للمراجعة: اصلاح العلاقة مع العالم الاسلامي، او ـ على الاقل ـ حجز التدهور ووقفه عند نقطة ما قبل القاع.. في مقابل ذلك: نحن نعلم ان هناك ـ من الاباعد والاقارب ـ من ربط مصيره وسياساته واستراتيجياته بـ (تردي) بل بـ (دوام تردي) العلاقة بين العالم الاسلامي والولايات المتحدة. فمن الناس من يتصور ان العلاقات الدولية، او العلاقة مع أميركا هي علاقة حب وهيام وانانية، لا يتسع قلبها إلا لمتيم واحد، ولذلك يتطير من وجود آخرين على المسرح، ويتبع تطيره بالاساءة والافساد للعلاقة، وقد يعمد في سبيل ذلك الى وسائل لا تخطر على بال، فيكون الضحية ـ في النهاية ـ: العالم الاسلامي والولايات المتحدة.

وندير الحديث الى اصل القضية فنقول: ان الاساءة الى القرآن العظيم، انما هي اساءة الى التوراة والانجيل، والى كل كتاب منزل من عند الله. ذلك ان القرآن هو النص الإلهي الاول الموثق %100 الذي يوثق وجود الكتب المنزلة السابقة ويزكيها ويعظمها.

وهذا هو البرهان الساطع القاطع الذي لا يكتنفه شك:

اولا: وثق القرآن: الوجود الحقيقي للكتب المنزلة السابقة ودعا الى الايمان المجمل الكلي بها: «وقل أمنت بما أنزل الله من كتاب»: اي كتاب انزله الله.

ثانيا: وثق القرآن: الوجود الحقيقي ـ على التفصيل ـ للكتب المنزلة السابقة، ودعا الى الايمان المفصل بها: «قولوا أمنا بالله وما أنزل الينا وما انزل الى ابراهيم واسماعيل ويعقوب والاسباط وما اوتي موسى وعيسى وما أوتي النبيون من ربهم لا نفرق بين احد منهم ونحن له مسلمون».

ثالثا: عظم القرآن ـ بالاسم والتعيين ـ: التوراة والانجيل

1 ـ «نزل عليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه وانزل التوراة والانجيل من قبل هدى للناس وأنزل الفرقان».

2 ـ «إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور».

3 ـ «وقفينا على آثارهم بعيسى بن مريم مصدقا لما بين يديه من التوراة وآتيناه الانجيل فيه هدى ونور».

رابعا: جاء القرآن (مصدقا) للتوراة والانجيل:

1 ـ «وأمنوا بما أنزلت مصدقا لما معكم».

2 ـ «نزل عليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه وأنزل التوراة والانجيل».

ونبي الإسلام يعظم التوراة

ففي صحيح الامام مسلم وغيره: ان نفرا من اليهود اتوا فدعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فآتاهم في بيت المدراس، فعرضوا عليه قضيتهم، فوضعوا لرسول الله وسادة فجلس عليها ثم قال: أئتوني بالتوراة فأُتي بها، فنزع الوسادة من تحته، ووضع التوراة عليها، وقال: «أمنت بك وبمن أنزلك».

ان رسول الاسلام: الامين على وحي السماء ـ الذي انزل عليه والذي انزل من قبله ـ عظّم التوراة أيما تعظيم، اذ رفعها من الارض ووضعها على الوسادة التي خصصت له، وآثرها بذلك على نفسه الشريفة.. لماذا؟ لأنه بعث بدين يمجد كلمة الله التي انزلت على كل رسول من قبل.. دين يشترط للايمان بالقرآن: الايمان بالكتب المنزلة السابقة. ولذلك قال النبي وهو يرى التوراة ويرفعها فوق الوسادة: «أمنت بك وبمن أنزلك».

وهذا هو الفرق الهائل بين من يؤمن بكل الكتب التي انزلها الله، ويرفع شأنها، ويحميها من أي امتهان، وبين من لا يؤمن بذلك، ولا يفعله.

والعبرة العميقة الناجعة في ذلك كله: هي: ان يتفطن الناس في أميركا وغيرها الى الحقيقة التالية وهي: ان البشرية كلها تقريبا قد باشرت ـ لاسباب عديدة ـ مرحلة العودة الى الدين ـ اي دين ـ بمعنى ان الواقع البشري يشهد (صحوات دينية) عامة. وما لم تبذل جهود نيرة وصادقة من اجل (خفض التوتر الديني) فإن البشرية ستحترق في سعير متواصل من الصراعات والنزاعات التي يغيب فيها العقل والرشد، ويحضر السفه والحمق والاستفزاز والنطاح.

اننا ندعو الى (ميثاق فكري حضاري عالمي) ينهض على أسس ثلاثة:

1 ـ انعقاد اجماع عالمي على الكف المشترك والمتبادل عن سب (اله) هذه الأمة او تلك.

2 ـ انعقاد اجماع عالمي على توقير جميع الكتب التي انزلها الله.

3 ـ انعقاد اجماع عالمي على توقير الانبياء والمرسلين كافة: اولئك المصطفون الذين اصطفاهم الله وانزل عليهم كتبه.