التحالف العربى ـ الإيبيرى المأسوف عليه..!

TT

أشاطر جميع الزملاء والكتاب والصحافيين أسفهم على عدم مشاركة القادة العرب في القمة العربية اللاتينية التي عقدت في البرازيل أخيرا، كما أشاطرهم سبب هذا الأسف والمتعلق بتوسيع نطاق التحالفات العربية العالمية في عالم بات كل الأطراف فيه تحاول زيادة رقعة روابطها الدولية لكي توسع من قدراتها على الحركة والمناورة. وكنت سابقا قد كتبت آسفا على ضعف المشاركة العربية، والمصرية خاصة، في المؤتمر الدولي للإرهاب الذي عقد في مدريد خلال شهر مارس الماضي بمناسبة حدوث عام على حادث مدريد الإرهابي والذي عده بعض المراقبين مماثلا من حيث التأثير في القارة الأوروبية لما حدث في الولايات المتحدة بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر المشؤومة في نيويورك وواشنطن. وسواء تعلق السلوك العربي بهذه الواقعة أو تلك بالقصور والسلبية، أم بالرغبة في العزلة والابتعاد عن مجموعات دولية عديدة، فربما لم يكن في الأمر جديد بالمرة، لأن القيادات العربية لا تحضر بغزارة الاجتماعات العربية على مستوى القمة في واحدة أو أخرى من عواصم العرب، فكيف يكون الحال إذا ما تضمن الأمر الذهاب إلى نهاية العالم، أو الوقوف لساعات طوال مع قادة دول تنتمي إلى حضارات مختلفة؟!.

ولكن المعضلة لم تكن مرتبطة بسلوكيات قادة وزعماء فقط، ولكنها ارتبطت بسلوكيات نخبة سياسية عربية لم تجد في اللقاء العربي ـ اللاتيني إلا استعادة لذكريات عالم ولى وراح يقوم على تكوين التحالفات «العالم ثالثية» في مواجهة الأغنياء والأكثر سطوة في الدنيا وبالذات الولايات المتحدة الأميركية. وببساطة فإن الكتابات العربية قبل اللقاء لم تعط القادة العرب سببا مغريا للمشاركة، فلو أن الأمر كان جزءا من عملية «العولمة» الجارية في الدنيا، أو أنه كان جزءا من عمليات حوارات الثقافات بين الثقافة العربية والثقافة الايبيرية الممثلة في الامتدادات الكاثوليكية اللاتينية لاسبانيا والبرتغال في أميركا الوسطى والجنوبية، لكان ممكنا استعارة فوائد للاجتماع. ولكن عندما يصاغ مؤتمر بهذا الحجم في صيغة استراتيجية تقوم على تغيير النظام العالمي المعاصر، فإن حكمة القادة لا بد وأن تغلب في البعد عن الشر والغناء له; وعندما فشل القادة العرب في الحضور فإن تأكيد الكتاب والمراقبين على أن ذلك يعود إلى رفض البرازيل مشاركة الولايات المتحدة في الاجتماع بصفة مراقب فإن الزعماء اعتبروا ذلك نوعا من بعد النظر!.

ولكن ظني أن حضور الزعماء العرب كان سيكون مفيدا لأسباب أخرى لا دخل لها بمسألة تشكيل تحالف عالمي بين دول الجنوب يواجه ويصارع دول الشمال. فبالإضافة إلى الحوار الثقافى المطلوب في كل وقت، خاصة بعد ذيوع آيدلوجيات غربية ومشرقية قائمة على صراع الحضارات، فإن التجربة اللاتينية في حد ذاتها تستحق المتابعة والتعلم منها في أوجه عديدة. واحد منها أن أبناء أميركا اللاتينية يشبهون العرب في وجود ثقافة مشتركة تستند إلى لغة واحدة تقريبا ـ الاسبانية والبرتغالية ـ ودين واحد هو المسيحية الكاثوليكية، كما كان لهم تاريخ مشترك للتخلص من الاستعمار الأوروبي، كما كانت لهم محاولات وحدوية لا تقل فشلا عن المحاولات العربية، وطوال فترة الخمسينيات والستينيات، وفي الأيام الذهبية لكاسترو وجيفارا والليندى وبيرون وأتباعهم من جماعات راديكالية وثورية من كل شكل ولون جعلت من العداء للغرب والإمبريالية جزءا أساسيا من الخطاب السياسي الشائع.

وحتى منتصف الثمانينيات فإن أميركا الوسطى والجنوبية كانت ممتلئة حتى آخرها بالحركات الثورية الشيوعية، ومنها انتقلت مدرسة التبعية الشهيرة التي انطلقت إلى كل العالم، وحتى «لاهوت التحرير» شكل أول المنابع لحرب الأصوليات الدينية مع لمسات إنسانية أصيلة. ومع الثورة والحروب الأهلية والانقلابات العسكرية جرى كما هي العادة سباق التسلح حتى اقتربت البرازيل والأرجنتين من السلاح النووي، وكما هي العادة أيضا جرى الفقر والتضخم المقدر بالمئات المئوية والتخلف على مستوى العالم!.

ولكن منتصف الثمانينيات شهد احتدام الأزمة في أميركا الوسطى والجنوبية والعالم الايبيري كله في نصف الكرة الغربي، فكانت الحرب الأهلية متعددة البلدان في السلفادور ونيكارجوا وهندوراس، ووصلت الأزمة الاقتصادية إلى ذروتها في المكسيك، ومن بعدها سلسلة طويلة من دول القارة. ولكن الأزمة ومعها انتهاء الحرب الباردة وانهيار الاتحاد السوفياتي وضع أميركا الجنوبية، كما وضع العالم العربي أمام خيارات حادة، وكانت النتيجة هي وصول الديمقراطية واقتصاد السوق إلى القارة الثائرة وبقاؤهما منتظرين على الأعتاب العربية. ومع وصول كلاهما إلى أميركا الجنوبية لم تنته فقط الدولة العسكرية في معظم القارة، أو سكتت المدافع وخرجت حركات مثل السندانيستا من الحكم في نيكارجوا، فإن المكسيك ما لبثت أن تحولت إلى الديمقراطية الحقيقية ومعها إلى منطقة عميقة للتجارة الحرة مع الولايات المتحدة صعدت بناتجها الإجمالي إلى ما يزيد عن ثلثي الناتج الإجمالي للعالم العربي كله. ووصل كاردوسو ـ أحد رواد مدرسة التبعية ـ إلى السلطة لكي يطبق الرأسمالية، وتخلت الأرجنتين مع البرازيل عن برامج التسلح النووي، واتفق الجميع على إنشاء منظمة «الميركوسور» لكي تحقق من التعاون الإقليمى ما تحقق في أوروبا، ولكى تأخذ بيد كل الدول الأميركية في الجنوب، لكي تلتحم مع دول الشمال الأميركي في منطقة تجارة حرة واحدة هي الأكبر والأغنى في العالم.

وببساطة جرى في أميركا الوسطى والجنوبية ما جرى في أنحاء كثيرة من العالم في وسط وشرق أوروبا، وفي شرق وجنوب شرق أسيا، حينما حدث التدافع للاندماج واللحاق بالنظام العالمي المعاصر في صيغه الديمقراطية والرأسمالية. ولم يكن ذلك، ولا يزال، سهلا أو سلسا، فقد ظلت كوبا على تمردها، وظلت جماعات ماركسية مسلحة تجري في جبال بوليفيا وبيرو وحتى المكسيك، وحدثت أزمة مالية خانقة في المكسيك، واقتربت الأرجنتين من الانهيار الاقتصادي الكامل، ولكن كل ذلك لم يخف التغير الكبير في الأحوال الاقتصادية والسياسية للقارة، وقدرتها ومعها النظام الدولى على الخروج من عثراتها الناجمة من التلاعب بقوانين السوق أو قوانين الديمقراطية.

وكما حدث في مناطق أخرى من العالم، فقد أدارت أميركا الجنوبية علاقاتها بالولايات المتحدة بمزيج من تعميق العلاقات الاقتصادية والسياسية، مع محاولة الحفاظ على قدر من الاستقلال، ولكن مع عدم السماح بوصل الخلافات إلى مرحلة العداء. وبينما اشتركت دول السلفادور والدومنيكان ونيكارجوا وهندوراس في الحرب على العراق، فإن المكسيك وشيلي لم تؤيدا أميركا في مجلس الأمن، وبين هذا الموقف أو ذاك تراوحت مواقف بين التأييد والمعارضة، ولكن أحدا لم يسمح للخلاف بالانفلات أو التغاضي عن مصالح أعظم وأكبر بكثير من حرب تجري ليس فقط على الجانب الآخر من العالم ولكن الجانب الآخر من العولمة!.

ولعل هذه التجربة الغنية كلها هي أهم ما افتقده القادة العرب في اللقاء مع قادة أميركا اللاتينية، وليس بناء التحالف العالم ثالثي الذي أشار له بعضنا وقلبه يرقص فرحا بعودة الستينيات مرة أخرى إلى مشارف الألفية الثالثة. فبالنسبة لأميركا الوسطى والجنوبية فإن الستينيات كانت أياما من الديكتاتورية والتخلف والصراعات والفقر والتضخم المزمن لا أعادها الله مرة أخرى!.