من لا يذكر غولساري...؟

TT

أسأل نخبة من الأصدقاء الذين ما زالوا على مقاعدهم ساهين في بلهنية منجعصين يناقشون في مقهى يجلله الغبار قضية الفن للفن والأدب للأدب ولا علاقة للاثنين بالحياة ولا بالعمل السياسي، اليوم أسأل هؤلاء بجدية تليق بغليوناتهم وربطات أعناقهم: هل يستطيعون التفرج في تلفزيون مقهاهم على أول مذبحة مدنية كبرى في هذا القرن في أوزبكستان دون أن يتذكروا رواية جرجي زيدان عروس فرغانة.

صحيح ان زيدان كان منشغلا بالسرد التاريخي والرومانس وتفاصيل العروس الفرغانية، التي تتعلق بفارسها المرافق، منذ انحدارها معه من الوادي باتجاه بغداد. لكن مجرد رؤية الحشود الهاربة من رصاص يحصد المدنيين بلا رحمة تتزاحم في وادي فرغانة، سيعيد للذاكرة، مع اسم المكان، الكثير من القضايا التي يظنها الساهون ماتت واندثرت وصارت ذكرى في الأدب، لكنهم يكتشفون اليوم على ايقاع الدم أنها حية ومؤثرة وأن السياسة ليست حكومة وبرلمان بل كل ما يمس حياة الناس وحقوقهم ومستقبلهم المرتبط بماضيهم عبر جسر الحاضر.

وهؤلاء الذين فروا من أبيدجان باتجاه قرغيزيا ألا يذكرون نخب القضايا الصفراء والميتة التي لا يشبعون من اجترارها بالشاعرالفذ رسول حمزاتوف الذي دافع على طريقته عن كبرياء الشعر والانسان في أقسى مراحل القمع الستاليني، الذي كانت مذابحه تتم في الخفاء، حين كان المستبدون على درجة عالية من الحظ، لأن مذابحهم ما كانت تتم أمام الكاميرات، كما في هذا العصر الذي لم يترك للمستبدين رفاهية اخفاء الحقائق.

وان لم يتذكروا حمزاتوف ألا يتذكرون جنكيز آيتماتوف والرواية الانسانية الرائعة (وداعا يا غولساري) التي تحكي عن فلاح شهم يموت حصانه في منتصف الطريق بعد طرده من الحزب وتسليم بطاقته الحزبية التي كان يعتز بها اعتزازه بحصانه الأشقر الجميل، لأنه أنتقد الطريقة التي يدير بها اللصوص والمرتشون والفاسدون كولوخوز القرية.

وما كان فساد ذلك الصقع النائي إلا صورة مصغرة عن الفساد العام الذي يسود في العاصمة موسكو، أيام الاتحاد السوفياتي العتيد، الذي وزع مجموعة من الديكتاتوريين الصغار على جميع المناطق وبعض هؤلاء ما زالوا إلى اليوم يحكمون ويقمعون ويرتكبون المذابح، ثم يلصقونها بالتطرف والارهاب، الذي صار الشماعة المناسبة لتعليق أخطاء الجميع. بل صار الإرهاب رخصة للقتل بدم بارد في أكثر من مكان من جمهوريات الاتحاد السوفياتي الاسلامية التي تغتسل شوارعها بالدم بحثا عن خلاص وتكتظ سجونها بالشعراء والأدباء، الذين لا يؤمنون كبعض البلهاء منا بأن الأدب لا علاقة له بالشأن السياسي.

اليوم وحين أحسب الوقت الهائل وأنظر الى كمية الحبر الرهيبة التي أهرقت في بلادنا أوائل القرن الماضي لمناقشة (الفن للفن) أدرك دون دحمة قطار لماذا تخلفت ثقافتنا وهبطت فنوننا، ولماذا رضي مثقفنا، تاريخيا، بدور التابع الذليل للسياسي، فقد سلم من أول الطريق حقه في أن يعترض ويحتج وينتقد ويغير ويصلح، واكتفى ببعض العبارات الانشائية عن المستبد العادل، دون أن يدرك تناقض تلك العبارة. فالعدل لا يجتمع مع الاستبداد تحت سقف واحد إلا عند مجموعة من بلهاء الثقافة الذين يعتقدون ان الفن لا علاقة له بالحياة والأدب، مفصول العرى حتما وتأكيدا عن السياسة.

[email protected]