الخلطة الصحافية

TT

لم يدر في خلدي وأنا اغادر مكتبه ان سر واشنطن الخطير الذي كتمه قرابة 30 عاما، وكنت أقرأ عنه منذ نعومة اظفاري بتعجب، سينكشف في نفس اسبوع لقائنا. كان ذلك الشخص هو الاسطورة بن برادلي رئيس تحرير صحيفة «الواشنطن بوست». الرئيس الذي اسقط رئيسا. فصحيفته، اسقطت الرئيس الاميركي ريتشارد نيكسون، عندما دعم رئيس التحرير صحافيين شابين لم يسمع بهما احد في واشنطن من قبل، ليفجروا ما عرف لاحقا بفضيحة «ووترغيت»، ويغيروا مسيرة الصحافة الاميركية.

ذلك السر الذي حفظه بن برادلي، والصحافيان بوب ودورد، وكارل بيرنشتين 33 عاما، لم يفشيا السر، حتى كشف المصدر عن نفسه. وسمعنا الرئيس الاميركي جورج بوش يعبر عن سروره بمعرفة مصدر احد اكبر اسرار واشنطن، الذي عرف بـ«البلعوم العميق». تصادف توقيت كشف سر «البلعوم العميق»، بعد زيارة رتبها لنا الكاتب الصحافي جيم هوغلاند مع برادلي بأيام. استقبلنا هوغلاند عند باب «الواشنطن بوست» بالعاصمة الاميركية لنصعد لمكتب رئيس التحرير المتقاعد منذ 1991 .

رأيت رجلا للزمان اثر في ملامح وجهه، وابتسامة ثعلب.انه رئيس التحرير النموذج. قال برادلي بلغة رجل كبير ينصح شابا، ان سر قوته كان ناشرة «الواشنطن بوست» كاثرين جراهام، والصحافي الجيد، حيث يقول ان شرطه الوحيد عندما عرضت عليه السيدة جراهام رئاسة تحرير البوست ان يكون له حق تعيين المحررين. يقول ناصحا «اردت افضل صحافي يغطي البنتاغون، والبيت الابيض، واخبار المدينة».

بعد كشف سر «البلعوم العميق» شاهدت بوب ودورد، الصحافي الذي تبناه ودعمه برادلي، على التلفاز يقول ان سر نجاحه هو «الناشرة جراهام، ورئيس التحرير القوي بن برادلي». اي ان معادلة التميز الصحافي من وجهة نظر بن برادلي هي ناشر متفهم وصحافي جيد. ومن وجهة نظر بوب ودورد ناشر ورئيس تحرير قوي.

هذه هي الخلطة المهنية الصحافية التي اتفق عليها كلاهما في اوقات مختلفة. فرأي برادلي سمعته منه في مكتبه، ورأي ودورد كان في حوار تلفزيوني اجراه معه لاري كينج على شبكة «سي. ان. ان».

لكن بقدر ما كانت سعادتي بلقاء رئيس التحرير النموذج، بقدر ما كان حزني بعدها بأيام وانا اشاهد صورة الزميل سمير قصير جثة هامدة على مقعد سيارته المتفجرة في بيروت. واصبحت اتساءل: هل يستطيع صحافي عربي الحفاظ على سر في عالمنا العربي لمدة 30 سنة، ناهيك من سقوط رئيس الدولة؟ بالتأكيد لا!

كشف سر مصدر فضيحة ووترغيت، وما سمعته من بن برادلي في مكتبه، وما قاله ودورد على التلفاز، في الوقت الذي للتو فرغت فيه من قراءة كتاب عن تاريخ الصحافة العربية مليء بالكذب والاوهام، وتصفية الحسابات، حيث يزور الكاتب احداث 2003، لا احداث 1950 وحسب، كل ذلك يدفعني لأقول اننا في امس الحاجة لمثل هذه الخلطة الصحافية السرية حتى نصل للصحافة التي نريد. لا صحافة الكذب والبطولات الوهمية!

[email protected]