علماء الإسلام وثقافة التطرف

TT

انضمت موريتانيا هذا الأسبوع إلى لائحة الدول العربية والإسلامية التي اكتوت في الفترة الأخيرة بنار الإرهاب، فتعرّضت وحدة عسكرية في شمالها لاعتداء غادر من الجماعة السلفية للدعوة والقتال الجزائرية، ذهب ضحيته العديد من الأبرياء، بعد أن كانت عاثت المجموعة نفسها فسادا وإجراما في الجزائر، طيلة أكثر من عقد من الزمن.

ومع أني لا أحبذ التفسير الثقافي لظاهرة الإرهاب، إلا أن الطابع الديني الزائف الذي تتدثر به، يحملني على القول أن هذا العنف الأعمى المدمر، لم يكن لينتشر ويستقطب قطاعات واسعة من الشباب، (بما فيه الشباب المتعلم المندمج)، لولا وجود أرضية ثقافية تفرخ التعصب والتشدد، وتكرس الرؤية العدوانية الاستئصالية للآخر.

وقد تعزز هذا الانطباع لدي بالرجوع إلى كتابات واعترافات المجموعات الإسلامية المتطرفة، التي بدا لي من الواضح أنها تستند إلى تأويلات وأطروحات ليست خاصة بها، بل هي منتشرة وشائعة في ثقافتنا الإسلامية المشتركة، حتى ولو كانت تقوم على أحكام وآراء لا ينعقد عليها إجماع علماء الإسلام ولا تسير في مصلحة الدين والأمة.

ودون تحميل علمائنا الأجلاء مسؤولية انتشار هذه الأفكار والمنطلقات، أرى لزاما عليهم تحمل مسؤولية وأمانة توضيح موقف الدين من هذه الخلفيات الملتبسة، التي تشكل ـ شئنا أم أبينا ـ الإطار المرجعي لحركات التطرف والإرهاب التي ابتليت بها الأمة في السنوات الأخيرة.

ومن أهم الإشكالات التي يتعين على علمائنا وفقهائنا الرد عليها بالوضوح الذي لا لبس فيه، الإشكالات الأربعة التالية:

أولا: ما هي مشروعية العمليات المدعوة بالاستشهادية التي تستهدف الأماكن العمومية وجموع المدنيين، والتي تبرر عادة بأنها السبيل الأوحد للوصول للعدو، بالنظر لاختلال موازين القوة وضيق الهامش المتاح لحركات المقاومة؟

أعلم أن جل علمائنا سيفتي بحرمتها إذا استهدفت مسلمين، وجوازها في إسرائيل حيث أغلب السكان من المستوطنين المغتصبين، وفي العراق حيث أغلب المدنيين الأميركيين والبريطانيين من أعوان الجيش المحتل، بيد أن السؤال المطروح هو: ألا تناقض هذه العمليات أخلاقيات وقوانين الحرب في الإسلام، بالإضافة إلى كونها تقدم صورة مشوهة وبشعة عن المسلمين، الذين لا يتورعون عن تقتيل الأطفال والعجزة في المقاهي والمدارس ودور العبادة؟

ولا شك أن هذه الاستراتيجية قد جنت على القضيتين الفلسطينية والعراقية أسوأ جناية، ومن ثم ضرورة تبيان موقف شرعي صارم ومسؤول منها، لا مهادنة فيه ولا غموض.

ثانيا: ما هو موقف الشرع من أنظمة الحكم التي لا تطبق القوانين المدعوة بالتشريعات الإسلامية، التي تختزل عادة في الحدود والعقوبات الجنائية؟ هل هي حكومات خارجة عن الدين، يجوز الخروج عليها ومحاربتها لأنها «لا تحكم بما أنزل الله»؟

قد تبدو في السؤال نغمة استفزاز، لكن الحقيقة التي لا مراء فيها أن كتابات الكثير من الكتاب الإسلاميين تسير في هذا الاتجاه، في تحديدها لمشروعية الدولة بتطبيقها للأحكام والحدود الفقهية، واعتبار اعتماد «القوانين الوضعية» تنصلا من المرجعية الإسلامية.

ولذا فموقف المجموعات الإرهابية المتطرفة يستند إلى هذا التصور، الذي لا بد لعلماء الإسلام من إجلائه في منطلقاته ونتائجه، بدلا من الاكتفاء بالحيلة الفقهية المألوفة، التي هي تقييد شرعية الخروج على الحاكم بإعلان الكفر البواح.

فالإشكال يتصل بشرعية الحكم لا بشرعية الخروج على الحاكم، بقدر ما أن نزع الشرعية عن الدولة يؤدي ضمنيا إلى تبرير رفضها ومحاربتها.

ويبدو أن جل علمائنا أحجم عن معالجة الإشكالات النظرية الإجرائية التي يطرحها تطبيق «العقوبة البدنية» في العالم المعاصر، وكان المفكر السويسري ـ المصري طارق رمضان قد دعا علماء الإسلام إلى الدخول في حوار جريء ومسؤول حول هذا الموضوع الهام، إلا أنه لم ينل سوى تجاهل البعض وسخط البعض الآخر.

ثالثا: ما هو الأصل في نظرة الإسلام للآخر المخالف في العقيدة؟ هل هي المودة والإقساط والتعاون أم الإقصاء والحرب والنبذ؟

أعرف أن جل علمائنا سيجيب بالشطر الثاني، بيد أن الإشكالات تتعقد عند الدخول في التفصيل. ومن بين هذه الإشكالات الأحكام المتعلقة بالجهاد: هل سن الجهاد للدفع أو للدفع والطلب معا؟

ولئن كان أغلب علماء الإسلام في العصور الوسطى قد ارتأى حصر الجهاد في الدفاع عن الدين والأمة، كما ورد في صريح النصوص المقدسة، إلا أن التصور الشائع في الخطاب الإسلامي المشترك، تؤطره مقولة «الحاكمية»، أي النظر إلى الجهاد باعتباره فرضا لحاكمية الله في الأرض والبشر.

ومن هذه الإشكالات ما يتعلق بأحكام التعايش مع الديانات والملل الأخرى، سواء في بلاد الإسلام أو بلاد المهجر، التي لم تعد تلائمها المفاهيم الفقهية التقليدية (أحكام أهل الذمة).

فالنظرة الصدامية للآخر تؤدي منطقيا إلى استئصاله والعدوان عليه، ومن ثم واجب تبيان أحكام الشرع في هذه القضايا الحيوية التي تتعلق بمقتضيات التعامل مع المخالف والمغاير.

رابعا: ما هي حدود ومرجعية الانتماء الإسلامي داخل إطار الأمة ذاته من حيث اختلافاتها العقدية والمذهبية والطائفية؟

فالأمة كما هو معروف تنقسم إلى فرق وطوائف شتى، ولا تزال الأحكام الاستئصالية ضد بعضها البعض تدرس في المقررات التربوية، وتبث في وسائل الإعلام واسعة الإنتشار، وتؤكدها دوائر الفتوى المحلية، مما يهدد بحرب أهلية داخل المجال الإسلامي، بدأت نذرها في العراق وباكستان وساحات أخرى عديدة.

ولقد آن الأوان للتخلص من هذه الأحكام الاستئصالية التي تعود لمراحل تاريخية بعيدة، مما يقتضي من علمائنا الكرام تقديم تصور واضح لا لبس فيه لمرجعية إسلامية منفتحة، تسع أنماط الاختلاف والتمايز المذكورة، التي تعبر عن ثراء ورحابة الجذر المشترك الذي هو النص القرآني والنبوي.

فالمطلوب ببساطة ووضوح هو محاربة ثقافة العنف والكراهية، التي هي خلفية الإرهاب ومرجعيته، وهو الأمر المناط بعلماء الإسلام وليس لسواهم القدرة على مواجهتها.